السلطان العثماني

الذي نازع القرآن في سلطته

يقول المؤلف إياد إبراهيم القطان في كتابه “الديمقراطية التائهة”: هذه الشخصية – قاصدًا العثمانية – شخصية إسلامية مختلفة تمامًا عن الشخصية (العربية) التي خاطبها الإسلام، وتواصل معها، وهذّبها، وأعطاها إطارًا عظيمًا ومرنًا من المثاليات، وجعلها وعاءً للعقيدة نفسها، بالإضافة إلى جعلها وعاءً إنسانيًا قادرًا على استيعاب الحضارات المحيطة بنوع من التصالح الفطري العفوي التام مع الطبيعة الإنسانية الخيّرة… صحيح أن الدولة العثمانية كانت تتمسك بشدة بالدين الإسلامي وشعائره، ولكنها كانت تفتقر في إدارتها وشخصيتها إلى الكثير من المقومات (الشخصية) الإسلامية التي تأسست على (العروبة).

الفتاوى المبررة للدماء: قراءة في تاريخ السلطنة العثمانية.

يلخّص إبراهيم قطان حالة التناقض الصارخة بين الادعاء بتطبيق الإسلام والشريعة عند العثمانيين والسلوك الفادح الذي انتهجوه، حتى أنهم سلكوا أشنع مسالك الخطيئة، وهي استحلال الدماء المعصومة، واستصدار الفتاوى من أجل تسويغها والاستمرار فيها.

التشابه والاختلاف بين فرعون ومحمد الثاني

محمد الثاني أول من شرعن قتل الأطفال غير المكلّفين في تاريخ البشرية وحوّله من جريمة إلى قانون يستمد منه الدستور العثماني، ووضع لها مبرراته وآلياته. في كتاب “ميراث الاستبداد” لمؤلفه إبراهيم البيومي غانم: “فتح فقه السياسة الشرعية باب الذرائع على مصراعيه أمام تصرفات “الحاكم” في عموم مصالح الأمة.. وآل الأمر إلى فقه التوسعة على الحاكم إلى أن أضحت كلمة سياسة في العرف العثماني المتأخر تعني “الصلب أو الشنق”، وأجاز بعض العلماء – العثمانيون – أن يقتل السلطان إخوته من أجل النظام العام”. إذ تنص المادة في قانون نامة آل عثمان المنسوب لمحمد الفاتح على: “إن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائنا فمن المناسب أن يقتل إخوته من أجل النظام العام، وقد جوّز أكثر العلماء ذلك، فليعملوا به”.

لم يسبق أحد من البشرية محمد الفاتح في جريمته النكراء سوى فرعون، لكن فرعون لم يستصدر قانونًا دائمًا لنفسه ولمن بعده، بل أمر جنوده فساحوا في البلاد لقتل أطفال معينين، وتوقّف أمره بعد القضاء عليه، لكن محمد الفاتح حوّله من سلوك إجرامي خاطئ إلى شريعة يلتزم بها من بعده من السلاطين. قانون استمر بعده قرونًا طويلة، واستخدم في قتل الأطفال إخوةً كانوا أم أبناء. لقد شابه محمد الفاتح فرعون في كل شيء، فهما قاتلا أطفالًا، وهما يحييان ويميتان ويتصدران القوانين التي تبرّر وتشرعن ذلك كيفما يشاءان.

القرآن أم شريعة محمد الفاتح؟

لعل الباحث سيبقى محتارًا في توصيف ما فعله محمد الفاتح الذي لم يسبق أحد في جرأته على الشريعة الإسلامية. نعم، هناك من نازعته نفسه البشرية، ونحا إلى القتل كحل لمشكلة توارث العرش التي انتشرت في السلطنة العثمانية، لكن السلطان محمد الفاتح أراد بقانونه أن يُثبت أنه هو من يهيمن على حياة الناس وموتهم، وليس القرآن. لقد حوّل السلطان محمد الفاتح نفسه إلى شريعة منفصلة عن الإسلام تبيح له ومن بعده القتل وتنزع الحياة تحت ذرائع غيبية لا يمكن فهمها.

فبالرغم من أن العثمانيين يدّعون تمسكهم بالشريعة الإسلامية وعلى رأسها القرآن الكريم، إلا أنهم انحرفوا عن تلك الشريعة وبنوا لأنفسهم شريعة تناسب شخصياتهم العنيفة، وتحقق مصالحهم الدنيوية على حساب الدين والأخلاق. لقد ندد القرآن الكريم بأول جريمة عرفتها البشرية، عندما قتل الأخ أخاه (قابيل وهابيل)، والتي نتجت عن طغيان المصالح الشخصية والطمع في الدنيا، وهي نفس مبررات شريعة محمد الفاتح التي أجاز فيها قتل الأبناء والإخوة تحت مبرر المصلحة الدنيوية، حتى ولو كان ذلك المقتول طفلًا رضيعًا، خوفًا من أن يشكّل خطرًا على عرش السلطان ذات يوم. وهذه الجريمة بالذات نفّذها السلطان محمد خان – الفاتح – ضد أخيه الرضيع.

السلطان العثماني هو من يهيمن على الشريعة وليست الشريعة من تهيمن عليه!!

يؤكد الباحث في التاريخ والسياسة “وليد فكري” ما قاله كثير من الباحثين في تجريم ما فعله محمد الفاتح، قائلًا في كتابه “الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال”: في التاريخ الإسلامي نماذج لإخوة تحاربوا على العرش وقتل بعضهم بعضًا، لعل أشهرهم أبناء هارون الرشيد، الأمين والمأمون، وأبناء صلاح الدين الأيوبي، وأخيه العادل. لكن لم يتفتق ذهن أي من هؤلاء أن يتخذ إجراءً استباقيًا بقتل “المنافس المحتمل” حتى قبل أن يبدر عنه ما يريب، بل وأن يشرعن ذلك القتل بنص قانوني، ويدعمه بمنطق “مصلحة الأمة”، واختيار أهون الضررين (القتل) بدلًا من أشدهما (الفتنة). هذا النص كما يقول وليد فكري: “يؤكد أن المركز القانوني للسلطان العثماني كان بالنسبة للعثمانيين هو مركز الوصي على الدين، وليس مركز الخاضع للدين”، وإن حرص العثمانيون على إظهار التزامهم بالشريعة فقط عندما يكون ذلك مفيدًا لهم. أي أن الدين كان بالنسبة لهم وسيلة سيطرة وليس شريعة منظمة لإدارة الدولة.

  1. إبراهيم البيومي غانم، ميراث الاستبداد (القاهرة: فيرست بوك، 2018).

 

  1. إياد إبراهيم القطان، الديمقراطية التائهة (فلادلفيا: جامعة فلادلفيا، 2002).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 2021).

 

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال.