القوانين العثمانية

بين التقاليد السلطوية والفتاوى الدينية

عُرفت السلطنة العثمانية عبر تاريخها بنهجها السلطوي الصارم الذي امتزج بالعرف والتقاليد، وشُرعن لاحقًا عبر قوانين مستندة إلى فتاوى دينية. من بين أبرز هذه القوانين وأكثرها جدلًا “قانون قتل الإخوة” الذي أقرّه السلطان محمد الثاني، المعروف بـ”الفاتح”، وجعله أداة لضمان استقرار الحكم والسيطرة على الدولة.

- محمد الفاتح وقانون قتل الإخوة: إرث دموي أم ضرورة سياسية؟.

اعتمدت هذه السياسة على مبدأ الإقصاء الدموي لأي تهديد محتمل لعرش السلطان، حتى لو كان التهديد مجرد افتراض أو مجرد وجود. القانون نصّ بشكل صريح:
“يسر الله السلطنة لكل واحد من أولادي، ولأجل تأمين استمرارية نظام العالم، فإن قتل الإخوة مناسب، وقد أجازه أكثر العلماء، فليُعمل به”.

تطور العرف إلى قانون

بدأ هذا العرف في عهد السلطان مراد الأول (1359م)، الذي أعدم ابنه الأصغر الأمير ساوجي بعد اتهامه بالتمرد والتعاون مع البيزنطيين. تطور العرف لاحقًا إلى ممارسة شائعة خلال صراعات الحكم بين أفراد الأسرة العثمانية، كما حدث في عهد السلطان محمد الأول الذي قتل إخوته الثلاثة في صراع امتد 11 عامًا، عُرف تاريخيًا بـ”عهد الفترة”.

مع صعود السلطان محمد الفاتح إلى العرش (1451-1481م)، تحوّل العرف إلى قانون رسمي. القانون أصبح وسيلة لتنظيم عملية الإقصاء الدموي وضمان توارث الحكم دون صراعات داخلية تهدد استقرار الدولة، لكنه فتح الباب أمام سلسلة من الأحداث الدموية التي عمّقت الأزمة الأخلاقية والسياسية داخل السلطنة.

التبرير الديني والسياسي لقانون قتل الإخوة

في محاولة لإضفاء الشرعية على هذا القانون، استعان السلطان محمد الفاتح بعلماء وفقهاء السلطنة لتبريره دينيًا. اعتمدت الفتاوى على مبدأ “أهون الضررين”، حيث قيل إن قتل فرد من الأسرة الحاكمة يمنع وقوع فتن أكبر تهدد الأمة. لكن، لم يقتصر القانون على قتل الإخوة البالغين أو المتمردين فقط، بل شمل حتى الأطفال الرضع. أبرز مثال على ذلك هو قتل محمد الفاتح لأخيه الرضيع مباشرة بعد توليه العرش، بحجة أنه قد يشكّل تهديدًا مستقبليًا.

دحض ادعاءات تزوير القانون

يرى بعض المؤرخين أن النسخة المحفوظة من “قانون نامة” في المكتبة الملكية بفيينا رقم (A.F554) مزيفة، ويُزعم أن أعداء الدولة العثمانية قاموا بتحريف النص لإظهار السلطنة بصورة دموية. لكن هذا الادعاء يُدحض بظهور نسختين إضافيتين، واحدة أوردها المؤرخ العثماني حسين أفندي في كتابه “بدائع الوقائع”، وأخرى كتبها هزارفن حسين في كتابه “تلخيص البيان في قوانين آل عثمان”. كلا النسختين تؤكدان صحة نسبة القانون إلى السلطان محمد الفاتح، مما يعكس الطابع الدموي لسياسات الحكم في الدولة العثمانية.

تأثير القانون على المجتمع والحكم

خلّف “قانون قتل الإخوة” أثرًا عميقًا على البنية السياسية والاجتماعية للدولة العثمانية. أصبح التربص داخل الأسرة المالكة جزءًا من ثقافة الحكم، وتحولت السلطنة إلى مسرح لصراعات داخلية متكررة. في عهد السلطان سليمان القانوني، امتد تطبيق القانون إلى قتل الأبناء والأحفاد. أمر السلطان بقتل ابنه وولي عهده مصطفى خنقًا بخيط من الحرير، إثر اتهامات بالخيانة زعمتها زوجته روكسلانة. كما أمر بقتل ابنه الآخر بايزيد وأحفاده الخمسة لتأمين استقرار الدولة.

أثر قانون قتل الإخوة على نهاية السلطنة

ساهمت هذه السياسة الدموية في زعزعة استقرار الدولة على المدى الطويل. مع ضعف السلطنة، أصبحت الفتاوى أداة سياسية تُستخدم لعزل السلاطين أو إعدامهم. مثال على ذلك:

  • السلطان عبدالعزيز، الذي خُلع من العرش في عام 1876م بسبب ميله للإصلاح.
  • السلطان مراد الخامس، الذي أُصدر بحقه فتوى لعزله في العام نفسه، نتيجة سعيه لفصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية.

استنتاج: بين الدين والسياسة

القانون العثماني الذي شرعن قتل الإخوة يعكس التوتر المستمر بين الدين والسياسة في الدولة العثمانية. بينما ادعى السلاطين العثمانيون التزامهم بالشريعة الإسلامية، استخدموا الدين كأداة لتبرير سياساتهم السلطوية، مما أدى إلى تشويه صورة الشريعة نفسها. ورغم مرور قرون على سقوط الدولة العثمانية، يبقى “قانون قتل الإخوة” مثالًا حيًا على استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية. هذا الإرث الدموي ساهم في ترسيخ صورة سلبية عن الحكم العثماني، وانعكس على استقرار المنطقة وتطورها السياسي والاجتماعي.

  1. أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة: 403 أسئلة وأجوبة، وقف البحوث العثمانية، 2014م.

 

  1. إيلبير أورتايلي: إعادة استكشاف العثمانيين، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018م.

 

  1. خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية: من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي.

 

  1. محمد فريد بك المحامي، ترجمة إحسان حقي: تاريخ الدولة العلية العثمانية، دار النفائس، 1983م.

 

  1. وديع أبو زيدون: تاريخ الإمبراطورية العثمانية من التأسيس إلى السقوط، الأهلية للنشر والتوزيع، 2003م.