بتحليلٍ تاريخي

الحياة السياسية والعسكرية للسلطان محمد الثاني

وفقًا لكتاب “الغرر الحسان في تواريخ حوادث الزمان” لحيدر بن أحمد الشهابي، فإن محمد الثاني جلس على عرش الدولة العثمانية مرتين: الأولى بعيد وفاة شقيقه الأكبر علاء الدين واعتزال والده مراد الحياة السياسية بعد تلقيه هزيمة نكراء على يد تحالف صليبي، فانقطع للعبادة في تكية مغنيسية وترك شؤون الحكم لولده.

الإمبراطورية العثمانية تحت قيادة الفاتح: استراتيجيات وأزمات.

وفي تلك الفترة كان السلطان الجديد ما يزال قاصرًا، فلم يتمكن من الإمساك بمقاليد الحكم إمساكًا متينًا، لا سيما أن الدوائر الحاكمة في أوروبا استغلت حداثة سن السلطان ففسخت الهدنة التي أبرمتها مع والده، وجهزوا جيوشًا لمحاربة الدولة العثمانية، فأُجبر السلطان مراد على الخروج من عزلته والعودة إلى السلطنة لإنقاذها من الأخطار المحدقة بها، فقاد جيشًا جرارًا والتقى بالعساكر الصليبية عند مدينة وارنة البلغارية وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثم عاد إلى عزلته لكنه لم يلبث بها طويلًا هذه المرة أيضًا، لأن عساكر الإنكشارية ازدروا بالسلطان محمد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السلطان مراد إلى الحكم وأشغل جنوده بالحرب في أوروبا، وبالأخص في الأرناؤوط، لإخماد فتنة إسكندر بك الذي شق عصا الطاعة وثار على الدولة العثمانية، لكن المنية وافت السلطان قبل أن يتم مشروعه بالقضاء على الثائر المذكور، فاعتلى ابنه محمد العرش للمرة الثانية، التي قُدر لها أن تكون مرحلة مهمة في التاريخ العثماني.

ما أسباب تلك العزلة؟ وهل يعقل أمر كهذا؟ لكن بعض المصادر أوضحت أنه التصوف والتغلغل في روحانيات سلاطين بني عثمان، لذلك كانت السلطنة في هاويات كثيرة من سوء السلوكيات الأغلب منهم، خاصة شرب الخمور، ووصل الحد ببعضهم أنه اعتبرها تجوز لهم بمعايير معينة وأوقات محددة. وهذا رد على من يقول إن السلطان الفاتح كان مُحاطًا منذ نعومة أظافره بطائفة من خيرة العلماء والمؤدِّبين، وكانوا يربونه على الإيمان والتقوى والصلاح ويغلظون له أحيانًا، ومما يؤثر في هذا الجانب، ما جاء في كتب التاريخ عن آق شمس الدين، أنه رفض دخول السلطان محمد عليه في خيمته التي يتعبد بها، رغم أنه يُدخل عليه من هم دونه، كما حرص على ألا يقوم من مكانه للسلطان احترامًا، وذلك ليدفع عنه بعض الزهو بعد أن فتح القسطنطينية.

يتم تحاشي كتابة أسماء العلماء والتصريح بها، وكل من ينقل مثل هكذا معلومات يتم نقله دون تمحيص للوصول إلى الحقائق بنسبة لو بسيطة على الأقل لدفع الشبهات إن كانت شبهات. كان الابن عادة ما يخلف أباه على عرش السلطنة، ولم يكن بالضرورة الابن الأكبر. وأحيانًا ما كانت تنشب بين الإخوة صراعات دموية حول وراثة العرش، أبرزها صراع استمر عشر سنوات بين أبناء بايزيد الأول في أعقاب موقعة أنقرة. لتلك الاعتبارات وغيرها اعتبر الإخوة مصدر خطر على السلطان. ومن الأمثلة التي تؤكد حوادث قتل الإخوة ما حدث بين جم وأخيه السلطان بايزيد الثاني، وكان الحل الذي يوقف ويحد من تلك المصاعب من وجهة رأي ونظر البيت السلطاني، ولتلافي مثل تلك الممارسات تقرر وأُقر قتل الإخوة.

ومن أقوى المبررات لمثل تلك الأفعال، أن يتخلص السلطان من إخوته إن كان هو الأكفأ والأبرز بينهم، وأن يكون له موظفين يوكلهم مهمة حمايته من إخوته، كموظفي القصر والإنكشارية. وكان السلطان محمد الثاني يرأس جلسات الديوان وهذا أمر طبيعي وليس مستغربًا، ولكن وُجد أن هناك من ينصت إلى مداولات الديوان من وراء ستار، فأصبحت ثقة السلطان عديمة بأهل بيته وأسرته خاصة إخوته، ولا ننسى الحريم والحرملك وتدبير ما يمكن من مؤامرات، لذلك كانت آثار مثل هذا القانون وغيره مدعاة إلى ارتكاب أبشع ما يمكن أن نتصوره حيال حفظ النفس وعدم قتلها، وأنها مما حرمها الله إلا بالحق.

وقد كتب جب وبوون نص القانون في كتابه “المجتمع الإسلامي والغرب”: “أصدر محمد الفاتح قانونًا يناشد فيه خلفاءه – أي من سيأتي بعده وليس خليفة المسلمين – أن يبدأوا ولايتهم العرش بقتل إخوتهم، نصه كالآتي: على أي واحد من أولادي تؤول إليه السلطنة أن يقتل إخوته، فهذا يناسب نظام العالم. وإن معظم العلماء يسمحون بذلك، ولهذا فعليهم أن يتصرفوا بمقتضاه”.

وقيل: ربما أُصدرت الفتوى في نطاق السرية، فيلزم مع هذا القول أن تُنفّذ الجريمة في سرية أيضًا، وإلا أوقعت العلماء وأهل الفتوى في حرج بالغ، وسكوتهم عن هذا حتمًا يتنافى مع مكانتهم في السلطنة. مبررات لا حصر لها تظهر كلما تعمقنا في الدراسة. لقد جاهر سلاطين بنو عثمان بسلوكيات يفاخرون بها، واعتبروها من موروثاتهم، فهل يستدعي منهم أن يتم تحويل عرف تمت ممارسته إلى قانون أن يكون سريًا. ويشرح أرنولد توينبي ما يتعلق بالحكومة المركزية العثمانية إلى أن الدولة ورثت ثلاثة تقاليد منفصلة: فهي وريثة كل من الإمبراطورية العربية – الإسلامية (على جد وصفه) والإمبراطورية الرومانية المسيحية، بالإضافة إلى تقاليد الرعاة الرحل في استبس أوراسيا، وأن ميراثها العربي الإسلامي كان أقل تأثيرًا عليها (وهذه ملاحظة مهمة تنفي عنهم أخذهم للأسماء العربية وبعض من الصفات التي يلبون من خلالها لباس الدين للسيطرة على الشعوب) على خلاف الميراث الروماني الذي كان أكثرها أهمية (وما أدل على ذلك من أخذهم نظام تسليح جيوشهم بالمرتزقة البرابرة ليسهل عليهم ارتكاب أبشع الجرائم الإنسانية دون عاطفة إنسانية). لقد كان للوجود الروماني واليوناني الأثر البالغ على شخصية الفاتح وتقريبهم له، تمتعت شخصية الفاتح بشخصية قيادية تتعامل مع البشر على أنهم قطيع ولابد من حراستهم، ولذلك تعيين كلاب مدربة على اتخاذ أسوأ السلوكيات لحفظ أمنه وأمن من يرغب لهم توفير الأمن. كان قيام سلاطين بني عثمان بقتل أخوتهم الذكور سبق عهد محمد الثاني المعروف بـ”الفاتح”، فالسلطان بايزيد الأول فور توليه الحكم، أمر بقتل أخيه يعقوب المعروف بالشجاعة والقوة، فقط لأنه خشي مطالبته بالعرش، وذكر بعض المؤرخين – ومنهم من ذكره في سياق الدفاع عن هذا القانون الدموي – أن رأي الفقهاء العثمانيين في المسألة كان أن “الفتنة أشد من القتل فنحن نأخذ أهون الضررين”! هذا مبرر ديني يغيبه الكثير بل الأغلب عن كتابته حتى تتم محاولة نفي ما نُسب للفاتح؟؟!! والتاريخ يقول من خلال مصادره: بعد وقوع بايزيد في أسر تيمورلنك وموته في محبسه، انتشرت الفوضى في الدولة العثمانية – (وهذه الفوضى تكررت زمن الفتح فما هي الآثار التي ترتبت عليها وتم تغييبها؟) – فتحارب أبناؤه حتى تغلب أحدهم-محمد الأول-وقتل إخوته المنافسين، بل قيل إن محمد الفاتح نفسه حين تولى السلطنة، أمر بخنق أخ له رضيع، وهي واقعة صحتها محل جدل، وإن كان محمد فريد بك-المعروف بانتمائه العثماني- ذكرها في كتابه “تاريخ الدولة العلية العثمانية”. في سياق آخر قال المؤرخ إدوارد شيبرد كريسي في كتابه “تاريخ العثمانيين الأتراك” أن كل أهل القسطنطينية تحولوا إلى رقيق وعبيد وتم بيعهم جميعًا في أدرنة وما حولها وذهب في وصف السلطان وجيشه وصفًا مروعًا لا مجال لذكره في هذا الموضع، وذهبت الموسوعة الأمريكية نسخة 1980م، مذهبًا أخف، وأكدت على أن السلطان قام باسترقاق كل مسيحي القسطنطينية، وباعهم في المدن المجاورة بأبخس الأثمان، ويضيف جون هاسلب في كتابه “سقوط القسطنطينية” أنه قد تمت سرقة كنوز القسطنطينية كلها وتم إفراغ القصر الإمبراطوري من موجوداته وتم الاعتداء على الأميرات.

وبحسب دراسة للباحث نافع شابو “فإنه عند دخول الجيش العثماني القسطنطينية (1453م)، انتشر القتل في كل مكان منها، وكثر النهب والاغتصاب، ومن الممكن القول إن البسالة التي أبداها الجنود في الهجوم انقلبت إلى تلذذ وحشي واستباحة مطلقة، وهو ما يتفق مع عدد من الدراسات التي أكدت أن السلطان العثماني السابق، قام أثناء فتح القسطنطينية، بقتل ملايين المسيحيين وبيع الآخرين في أسواق الرقيق، واغتصب جنوده النساء، وتم قتل آلاف الأطفال. مما لم يكتب عن الفاتح عند الفتح وتشبع الروح التي تحمل قوانين تجيز له ما لا يجيزه لغيره أن السلطنة وامتدادها الكبير أصابها بضعف في إدارتها، لذلك كانت مجريات الأحداث في القسطنطينية تتطلب تحويلها إلى مدينة مسلمة في أقصر وقت ممكن وهي حاضرة السلطنة، لذلك عمت الفوضى وما تقدم ذكره، وكانت لغة الجنود إما التحول للإسلام أو القتل. قد تكون تلك أحداثًا مزورة، ولكن كتبها العرب والغرب، وحتى الترك أنفسهم مفاخرين بها ودليلًا على قوة الدولة التي حلت محل إمبراطورية حكمت العالم الغربي. ويتناسون أنها كانت بقايا الرومان متمثلة في بيزنطة وما جاورها. وهناك من يقول إشاعة مثل هذه الأحداث لتوحيد المسيحيين ضد المسلمين والرد على ذلك: إن كانت تلك أباطيل برمتها، لماذا لم يتحد المسيحيون، ولماذا تشكل جيش العثمانيين من مرتزقة أوروبا وغيرهم؟ ذكر إيلبير في كتابه “إعادة استكشاف العثمانيين”: “كانت تلك القصص المخيفة في حقيقة الأمر، تقنية دفاعية سيئة، وفي حالة أخرى يمكننا أن ننظر إلى كيفية تلقي مملكة آق قويونلو، وهي جارة شرقية للسلطنة العثمانية، خبر فتح إسطنبول على يدي السلطان محمد. في التاريخ الرسمي لهذه الدولة، كتاب الديار بكرية، تم تجاهل الفتح كليًا.” نجد من خلال التتبع عما كُتب عن محمد الثاني لم يكن بتلك الشخصية الفذة، ولا أقلل من شأنه كحاكم أو سليل أسرة لها دولة وحدود وأصبحت بعد سيطرته على القسطنطينية لها تاريخها في أحداث الغزو والتمدد، واستكثار الشعوب على اختلافهم وتنوعهم، وقد كان هدف توارثوه بعد استيطانهم آسيا الصغرى، وصنعوا لأنفسهم تاريخًا تجاهل كتابة حقائقه الكثير، ولا زالت آثار سلوك الأتراك تجاه الأعراق الأخرى غليظة فظة. يحث الأتراك بعضهم البعض كرههم للعرب مثلاً، حيث قيل: “عار على كل تركي أن يحب العربي.” أثر وتأثير باق يحكيها تاريخهم بين جدران قصورهم، والجرائم التي ارتكبت في دهاليزه.

  1. أحمد الشنتناوي وآخرون، دائرة المعارف الإسلامية (دار المعرفة، د.ت).

 

  1. أحمد عبدالرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني (القاهرة: دار الشروق، 1993).

 

  1. إبراهيم كالين، مقدمة إلى تاريخنا والآخر (بيروت: الدار العربية، 2021).

 

  1. إيلبير أورتايلي، إعادة استكشاف العثمانيين (بيروت: الدار العربية، 2018).

 

  1. أماني جعفر الغازي، الدولة العثمانية من خلال كتابات المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية، رسالة دكتوراه (2010).

 

  1. عبدالعزيز جمال الدين، مختارات من تاريخ الجبرتي (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2021).

 

  1. محمد شعبان صوان، يوميات السلطان (بيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع، 2020).

 

  1. محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية (بيروت: دار النفائس، 1983).