"دروشة"

السلطنة العثمانية

كتب أحد أكبر رواد مذهب الإنسانية جورج سانديز، الذي دون أحد أول كتب الرحلات عن العالم الإسلامي ونظرة الغرب، ففي كتابه الذي يحمل عنوان “حكاية سياحة بدأت عام 1610م” اتبع في طريقة الكتابة خطى بسكال وكرر التعبيرات المعادية للإسلام التي ألفها الأوروبيون حول الدين الإسلامي والقرآن وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ففي نظر سانديز لم تمثل الدولة العثمانية راية الإسلام، بل اعتبر أن العثمانيين يمثلون الشرق المعاكس لأوروبا، وقال: “إن السلطان العثماني طاغية، وبينما تمثل أوروبا القيم العليا للحضارة الكلاسيكية أي الإمبراطورية الرومانية، فإن الدولة العثمانية الموجودة على أراضي روما الشرقية تمثل التخلف والبربرية والفظاظة من وجهة نظري”. واعتبر أن العثمانيين يفتقرون إلى العمق الذهني والرقة الجمالية.

ما الذي جعل سانديز يكتب ويوثق تلك النظرة، وحتى نكون منصفين حتى المؤرخين العرب والمسلمين كتبوا عن تلك الفظاظة والتعاملات التي عُرف بها الشعب التركي وليس سلاطينه وحسب، وكتب أن الأتراك العثمانيين مجتمع بربري بعيد عن فهم الحضارة وقيمها. وقال عنهم ابن الفقيه: “الروم أصحاب صنعة، الهند أصحاب فلسفة، الترك كلاب ضالة، العرب هم أعقل الأمم وأفضلها سواء كان ذلك عن اعتقاد منه أم تظاهرًا بالتقرب للعرب”. كما كتب صفات متفرقة متنوعة.

يعود ذلك إلى عقيدة جبلوا عليها وتوارثوها رغم إسلامهم، ولكن الاختلاط والخلط ترك الأثر الواضح إلى هذه الحقبة التاريخية، ويعتقدون ذلك من أصول الدين، ولسلاطينهم الطقوس التي مارسوها في الخفاء والعلن، واعتبروا ذلك جزءًا من تحضرهم وأن يواكب الدين كل المتغيرات التي تحولوا من خلالها.

كتب أحمد عبد الرحيم مصطفى عن السلطان محمد الثاني: “ورغم قسوة محمد الثاني فإنه تميز بالكفاءة والذكاء”. ويقصد بالقسوة أنه استهل عهده بقتل أخيه أحمد، وقنن قتل أخوة السلاطين من بعده في سبيل مصلحة الدولة. ومن الكتابات التي تنتشر أثر تربية وتنشئة السلطان محمد الثاني، والذي غرست في نفسيته أنه الأمير الذي يقصد بفتح القسطنطينية، فيذكر الكثير روايات منها: “فمنذ أن ولي السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451م، كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها.

التأثيرات الصوفية والأفكار المنحرفة واضحة في الدولة العثمانية.

تأثر محمد الفاتح بمعلميه منذ طفولته ومن أخصهم أحمد بن إسماعيل الكوراني، وكان مدرسه في عهد السلطان مراد الثاني. وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني الفاتح، أميرًا في بلدة (مغنيسيا) وقد أرسل إليه والده عددًا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم، ولم يقرأ شيئًا، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، فطلب السلطان المذكور رجلًا له مهابة وحدة، فذكروا له المولى (الكوراني)، فجعله معلمًا لولده وأعطاه قضيبًا يضربه بذلك إذا خالف أمره.. فذهب إليه، فدخل عليه والقضيب بيده، فقال: “أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربًا شديدًا، حتى خاف منه السلطان محمد خان، وختم القرآن في مدة يسيرة..”.

مثل تلك الكتابات غير منطقية، ولا تمت إلى الواقع بصلة لا سيما إذا ما بحثنا في مصداقية مثل تلك الروايات نجد بين جنباتها المبالغة، ومحاولة صريحة وواضحة عن سلوكيات اتبعها السلاطين تعبر عن صوفيتهم ومزجهم بين العقائد المتوارثة بينهم وعمم على مذهب دولتهم، وإن لم يكن بصيغة رسمية لكنه واضح للعيان. ونجد عبدالعزيز الشناوي يكتب عن الدراويش في الدولة العثمانية ضمن مؤلفه الذي يعتبره الكثير بأنه كتاب لا يمكن التشكيك فيما جاء فيه ويتغافل الكثير عما وثقه وكتبه وذكر في مقدمته بأنه سيكتب ما للدولة وسيترك ما عليها لغيره. قال عن الدراويش: “وتلحق بالهيئة الإسلامية أيضًا طوائف الدراويش، وكانوا كثرة عددية كبيرة، ولكنهم لم يكونوا أعضاء في هيئة العلماء لأنهم لم يتلقوا دراسات علمية منتظمة أو محترمة”. والغريب اعتبارهم ضمن الهيئة الإسلامية ولكنهم غير محترمين. ثم يأتي على ذكر الكم الهائل لانتشارهم وأنه عم جميع الطبقات وهذا دليل على أنه تحاشى الكتابة عن بعض السلاطين وانحرافاتهم الفكرية العقدية ومنهم محمد الثاني، ويكتب بالعام والمطلق حيث قال: “وانتشرت هذه الطوائف في أرجاء الدولة وشملت جميع الطبقات والأقاليم العثمانية. ومما هو جدير بالذكر أن عددها بلغ في مصر إبان الحكم العثماني زهاء ثمانين طريقة”. ويكتب: “والمعروف عن العثمانيين أنهم يحبون التصوف والدروشة. وقد سجل الجبرتي عليهم ميلهم إلى الدراويش..”.  أجاب أحد عشاق الفاتح عن عقيدة الفاتح فقال: “كان الفاتح قائد الجيش هو محمد الفاتح وهو حنفي المذهب ماتريدي المعتقد صوفي المشرب”.

لقد كان للدراويش تأثير واضح في شوارع إسطنبول مثلًا وترديد شعارات تؤكد طقوسهم وعقائدهم، وذكر بأنهم استطاعوا زمن الفتح أن يؤثروا على الجنود والسير في مسيرات وهتافات تؤجج الحماسة بطرائقهم المنعقدين عليها في سلوطياتهم، لذلك تردد عن دخول القسطنطينية عند سقوطها أن الفوضى عمت، وكثر السلب والنهب وما يتبع ذلك.

  1. إبراهيم كالين، مقدمة إلى تاريخنا والآخر وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب، ترجمة: أنس يلمان (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2021).

 

  1. أحمد عبدالرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني (القاهرة: دار الشروق، 1993).

 

  1. توفيق الطويل، التصوف في مصر إبان الحكم العثماني (القاهرة: د.ن، 1946).

 

  1. فاطمة عبدالرؤوف، الحرملك (القاهرة: دار الفاروق، 2022).

 

  1. عبدالعزيز اللميلم، نفوذ الأتراك في الخلافة العباسية وأثره في قيام مدينة سامراء (د.م: د.ن، 1403هـ).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1992).

العقيدة العثمانية:

غلو وتطرف وانحراف

أخطر ما يستخدمه الغلاة في السلطان محمد الفاتح هو حديث فتح القسطنطينية، فالغلاة لا يعلمون أنهم بتقديسهم للفاتح وتقديمهم له كمثال عن سلاطين بني عثمان يضربون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أن حديث فتح القسطنطينية ضعيف ومشكك فيه. لأن غلاة الماتردية وغلاة الأشعرية يستخدمونه لإثبات عقيدتهم، خاصة وأن محمد الفاتح كان صوفيًا ماترديًا، وليس من المعقول لا دينًا ولا عقلًا ومنطقًا، أن الرسول الهادي الأمين سيمدح فرقة من الفرق التي كان يحذر منها في قوله عنها (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة) وهم صحابته ومن سن سنتهم.

عقيدة محمد الفاتح:

 لقد أثبت المؤرخون العثمانيون أن السلطان محمد الفاتح صوفي المشرب، ماتردي العقيدة، إذ كانت الصوفية والماتردية منتشرة جدًا في عصره. كذلك الحروفية الباطنية وتمددها في عهده لأنه كان في حاجة إلى دعاية دينية تؤجج مشاعر جنوده، لذلك قرر تبني معتقدات أكثر مغالاة في شخص الحاكم، تمنحه سلطة أكبر من كونه سلطانًا تركيًا، فقد طمع في أن يكون هو المهدي المنتظر، ووجد ضالته في فرقة “الحروفية” الضالة، التي اتخذت طرق الصوفية للدخول في الجسم الإسلامي.

لم يكتف الفاتح بذلك، بل دعم زعيم الحروفية “عماد الدين نسيمي” إذ كان السلطان من تلاميذه، فأطلق يده من بوابة الباطنية الصوفية، وقرر طباعة كتاب الحروفية “جاويدان نامه كبير” وسماه بالتركية “عشق نامه” (رسالة العشق) وقرر تدريسه في أرجاء السلطنة العثمانية. وفي كتاب الجهاد ضد الجهاد يقول الكاتب أحمد المسلماني، نقلاً عن الباحث ناصر الفهد في دراسته المعنونة “الدولة العثمانية وموقف الأئمة منها”: “إن السلطان العثماني أروخان الأول، كان صوفيًا بكتاشيًا، والبكتاشية باطنية”، ويكمل الفهد قائلاً: “إن من يتأمل الدولة العثمانية منذ نشأتها وحتى سقوطها.. لا يشك في مساهمتها في إفساد عقائد المسلمين وذلك بقيامها بنشر الشرك، وقتل أصحاب التوحيد”.

حبه للنصرانية:

 تقلب الفاتح وتحولاته الفكرية غريبة جدًا، تدل على فساد العقيدة واضطراب الفكر، فمن المارتدية والصوفية إلى التعلق بالمسيحية، ولعل الفرمان الذي يقول فيه: “إن والدتي مارا ديسبينا خاتون، وهي واحدة من أعظم النساء المسيحيات في هذا العهد، اشترت الدير المعروف باسم آيا صوفيا الصغيرة في سلانيك، وفقًا لقواعد الشريعة. ولديها أيضًا الوثيقة اللازمة. أبلغونا بالأمر. وأنا بدوري وجدت ذلك مناسبًا، وأصدرت هذا الفرمان لكي تمتلك الدير. ولها أن تبيعه أو تتبرع به. لا يعمل أحد على عرقلة وإفساد وتغيير هذا الأمر. ولا تأخذ ضريبة من الذين في داخله”.

لقد كان محمد الفاتح واحدًا من كبار داعمي النصرانية في عصره، بل إنها تمددت داخل السلطنة وأخذت حمايته ودعمه المالي بشكل غير مسبوق، فضلاً عن أشعاره التي قالها في النصرانية وهي تشير إلى ميل أو تعلق، ولعل علاقته بوالدته لها أثر كبير في ذلك. يقول الباحث توران قشلاقجي: “وكان أول عمل يقوم به الفاتح بعد فتح إسطنبول، هو إحياء الأرثوذكسية، من خلال المساهمة في اختيار وتعيين بطريرك جديد. وأعلن نفسه مدافعًا عن الأرثوذكسية، ليكون بمقدور المسيحية الشرقية، تحت رعاية الإمبراطورية العثمانية، مواصلة وجودها ضد المسيحية الغربية الكاثوليكية. تم اختيار جناديوس سكولاريوس بطريركًا للأرثوذكس، وحصل على موافقة الفاتح، واستقبله الأخير في مقامه، ومن ثم منحه وثيقة تقضي بأنه محمي من جميع أشكال الهجمات. كما منح الفاتح البطريرك درجة الوزير، عبر بروتوكول رسمي ليتمتع بحق المشاركة دائمًا في الديوان الهمايوني والتعبير عن رأيه هناك”.

ويؤكد الباحث والكاتب فريد صلاح الهاشمي في كتابه “تركيا في ضوء الحقائق الأتاتوركية” تعلق محمد الفاتح بالنصرانية وانبهاره بها وبآثارها؛ خاصة وأن ذلك لم يكن كلامًا مرسلاً بل أثبته الفاتح بنفسه في شعره المدون: “كان – محمد الفاتح – متفانيًا في محبة المسيحيين، منبهرًا بآثارهم، يتردد إلى كنيسة لهم في حي غلطة Galata، وله أبيات عشر يعبر من خلالها عن بالغ إعجابه بالمعالم المسيحية، فيقول في تلك الأبيات التي أنشأها باللغة التركية العثمانية، من شاهد غلطة لا يكاد قلبه يربط بالفردوس”. أبيات الشعر المنسوبة للفاتح تدل بكل تأكيد على فساد عقيدته وتقلبه بين الطرق الصوفية تارة، ثم الماتردية التي تذهب حق العقيدة ولا تلتزم بما آمن به السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وليس انتهاء بتعلقه بالمسيحية، وتجريفه في حق الملائكة، وهي مدونة وواضحة في أشعاره.

لقد تنقل الفاتح بين العقائد دون وجل ودون ثبات، مندفعًا وراء انفعالاته واضطراباته النفسية، فهو تارة صوفي متطرف، وتارة ماتردي، وتارة متعلق بالمسيحية والمسيحيين ويدعم أعمالهم، ويمدح عقائدهم، بل ويربط بين الفردوس أعلى مراتب الجنة وبين المسيحية، إنه اضطراب يحاول المتيمون والمهووسون بالسلطان العثماني إخفاءه، وتقديم بدلاً عن تلك الشخصية الحقيقية، شخصية أخرى متستترين وراء الحديث الذي ضعفه كثير من العلماء المتخصصين في علم الحديث.

الفاتح كان مثالاً للتقلب بين المعتقدات والأديان.

  1. أحمد المسلماني، الجهاد ضد الجهاد (القاهرة: دار ليلى، 2015).

 

  1. فريد الهاشمي، تركيا في ضوء الحقائق الأتاتوركية (القاهرة: دار العبر للنشر، 2014).

 

  1. محمد صفوت، السلطان محمد الفاتح (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
تشغيل الفيديو