
العثمانيون
في الوقت الذي تجاهلوا فيه الأندلسيين فتحوا أحضانهم لليهود
حينما قربت نهاية دولة العرب المسلمين في الأندلس؛ أرسل أهالي غرناطة رسالة استغاثة إلى سلاطين العثمانيين ومنهم محمد الفاتح، يطلبون إنقاذهم من بطش الإسبان. ولم يستجب السلطان العثماني للنداء، في ظلّ الأخطار الجسيمة التي حاقت بالدولة، والمتمثلة بمواجهة تحالف صليبي شديد. بعد ذلك، راسل مسلمو الأندلس السلطان بايزيد الثاني الذي خلف أباه الفاتح، وقد ورد نص تلك الرسالة المؤثرة في كتاب “أزهار الرياض في أخبار عياض”، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني. ولكن دون جدوى.
لم يكن أهل الأندلس يحققون للعثمانيين المكاسب كما أصحاب رؤوس الأموال اليهود.

ومع ذلك قدّم ممجّدو الدولة العثمانية أسباب صعوبة إنقاذ المسلمين، ومنها أن الدولة العثمانية كانت في نزاع مع المماليك، بسبب رغبة السلطان المملوكي بضمّ منطقة “جوقورأوه” التابعة للعثمانيين، إلى الأراضي السورية التابعة للمماليك، وكانت التوترات قد بلغت أوجها، إلى حد تحرّك الجيوش إلى تلك المنطقة. بمعنى أنهم تحركوا للشرق ولا إمكانية أن يتجه جيش آخر للغرب. كما قدموا عذرًا آخر متمثلاً بأن الصفويين في فارس كان خطرهم يحيق بالعثمانيين.
والحقيقة أن جموع المهاجرين ومن خرجوا مضطهدين، كانوا في حاجة إلى تصريح أو حتى تلميح بدعوتهم للقدوم إلى أراضي الدولة العثمانية لمساعدتهم عن طريق البحر، وكان باستطاعتهم حمل المهاجرين وإنقاذهم. أما الخطر الصفوي فيقول عنه نبيل عبدالحي رضوان، في كتابه بعنوان “جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث”: “إن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقًا أمام تقدم العثمانيين في الغرب، لأن مجهود الدولة كان موزعًا في الشرق والغرب، وبالتالي يقلّل من قوة الهجوم تجاه التقدم في وسط أوروبا”. والسؤال الكبير؛
من كان الأولى؟ ولماذا تشتّت الدولة جهودها، وهناك ألوف مؤلّفة من البشر يستغيثون؟ أم أنه تم التنازل لإرضاء الغرب ليتم في المقابل الرضا عنهم واعتبارهم من دول الغرب الأوروبي؟.
كما راح مؤرخون آخرون يبحثون للعثمانيين عن أعذار، منها المشكلة الداخلية التي واجهها السلطان بايزيد الثاني بصراعه مع أخيه الأمير جم حول العرش، وما ترتّب عليها من توتر مع المماليك الذين قاموا باحتواء الأمير المتمرّد. وأن بايزيد واجه تحالفًا صليبيًا جديدًا من البابا يوليوس الثاني، وفرنسا، والمجر، والبندقية، ما حدا بالدولة إلى تركيز جهودها على الخطر القادم من أوروبا.
المحاولات التي قام بها سلاطين العثمانيين تجاه الأندلس لم تكن من موقف صارم وثابت، مثلما يدّعي بعض المؤرخين، كصرامتهم تجاه الصفويين. فما قام ب كمال رئيس بضرب سواحل جزر جربة ومالطا وصقلية وساردينيا وكورسيكا، ثم سواحل إسبانيا، وهدم العديد من القلاع والحصون المشرفة على البحر في هذه السواحل، لم يكن ينوي أن يبقى طويلًا، لأن الحرب البحرية لا تكفي للاستيلاء على المدن، فلا بدّ من مشاركة القوات البرية التي تتوغل في الداخل.
لم يمل الأندلسيون من تجاهل العثمانيين؛ فقد أرسلوا استغاثةً إلى السلطان سليم الأول، وابنه سليمان القانوني، ولم تكن كل تلك الاستغاثات تثير الغيرة لدى السلاطين العثمانيين باتخاذ موقفٍ حاسم من قضية الأندلسيين، إنما اكتفوا بالمساهمة بنقل مسلمي الأندلس إلى الشمال الأفريقي، من دون أن يكون لديهم نية في الإسهام الفعلي في إنقائهم، والعمل العسكري الحقيقي، الذي كانت تستخدمه الدولة العثمانية في مناطق حدودها.
وفي الوقت الذي كان يسعى فيه العثمانيون إلى نقل مسلمي الأندلس للشمال الأفريقي؛ احتضنوا يهود الأندلس ونقلوهم إلى بلادهم وعاصمتهم إسطنبول، لذلك يقول أول رئيس لدولة الاحتلال الصهيونية حاييم وايزمان: “العالم الإسلامي يعامل اليهود بقدر كبير من التسامح، فقد فتحت الإمبراطورية العثمانية أبوابها لليهود عندما طُردوا من إسبانيا، ويجب على اليهود ألا ينسوا ذلك”.
ويقول المستشرق برنارد لويس في كتابه إسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية: “ازداد عدد اليهود في إسطنبول منذ نهاية القرن الـ15 بصورة خاصة، إذ جاء الكثيرون منهم من إسبانيا والبرتغال والبلاد الأوروبية الأخرى، باحثين عن مكان للّجوء إزاء اضطهاد المسيحيين لهم، إلى حكم السلاطين العثمانيين المتسامح”، ويضيف “تمتع اليهود والمسيحيون على السواء بحرية العبادة في إسطنبول، في ظل واقع التاريخ الإسلامي والعثماني بهذا الخصوص، ومُنحوا قدرًا كبيرًا من الحرية القومية”. ويفتخر كثير من معلقي الأخبار التاريخية حول العثمانيين بأن تلك شهادة من مشاهير السياسة والتاريخ، تؤكد حقيقة تسامح العثمانيين مع غير المسلمين ومن بينهم اليهود، في الوقت الذي كانت تُغلق في وجوههم أبواب أوروبا.
بايزيد الثاني الذي تجاهل الأندلسيين، أصدر أوامره إلى حكّام أقاليمه بعدم رفض اليهود أو وضع عقبات أمامهم، فتدفّقوا على أراضي الدولة العثمانية، واستقرّوا في العديد من المدن الرئيسية مثل إسطنبول، وأدرنة، وإزمير، وسلانيك.


- أحمد آق كوندوز وآخر، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية ، 2014).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1992).
- نبيل عبدالحي رضوان، جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث (مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، 1988).