
فوضى العهد السلطاني:
محمد الثالث بين تمرّد الجند وثورة الجلالية
تولّى محمد الثالث، السلطان العثماني الثالث عشر، العرش سنة (1595) بعد وفاة والده مراد الثالث، وكان قد قضى سنواتٍ واليًا. وقد استهل حكمه بمجزرة أسرية معتادة في البيت العثماني، إذ قتل تسعة عشر من إخوته الذكور دفعة واحدة، توطيدًا لسلطانه. وهكذا بدأ عهده على الدم، لكنه سرعان ما واجه واقعًا أشد دموية: دولة منهكة، وجيش ممزق، وثوراتٌ متلاحقة في الداخل.
• حين تحوّل السلطان إلى شاهدٍ على انحلال سلطانه

ترك السلطان الشاب إدارة الدولة لوزرائه، فانغمس هو في القصر وشهواته، فيما تقاسم الوزراء النفوذ، وباعوا المناصب، وتلاعبوا بالعملة. سرعان ما انعكس هذا على هيبة الدولة في الداخل والخارج. وحين نصحه بعض العلماء بتولّي قيادة الجيوش بنفسه، خرج بالفعل إلى ساحات القتال، لكنه اصطدم بواقع مرير: جيش أنهكه التحاسد، وقيادة عاجزة عن ضبط الجنود. كانت معركة كرزت (1596) مع التحالف النمساوي–المجري محطة فاصلة؛ انتصر فيها العثمانيون بالكاد، لكن الجيش خرج ضعيفًا مفككًا، وعاد الجنود ممتلئين بالضغينة والتمرّد.
شهد عهد محمد الثالث تمرّدين بارزين؛ الأول ثورة الفرّارين، وهم الجنود الذين فرّوا من معركة كرزت. قرر السلطان نفيهم إلى الأناضول، لكنهم تمرّدوا أكثر من مرة، فصاروا نواة لعصيانٍ دائم. والثاني ثورة السباهية (الخيالة)، وهم فرسان الجيش العثماني الذين تمتعوا بإقطاعاتٍ تُعفيهم من الضرائب مقابل الخدمة. لكن الدولة عجزت عن تعويضهم بعد اضطراب الأناضول، فثاروا في إسطنبول ومصر، معلنين غضبهم على السلطان الضعيف.
كان لمحمد الثالث ثلاثة أبناء: سليم، توفي صغيرًا، ومحمود، الذي أعدمه أبوه سنة (1603) خوفًا من انقلاب مزعوم، ثم أحمد الذي ورث العرش وعمره أربعة عشر عامًا فقط. ومع أن محمد الثالث أبقى أخاه مصطفى حيًا، إلا أنه حبسه مع الجواري والخدم، لتكون “العزلة” بديلًا عن “القتل”. وهكذا استمر منطق البيت العثماني في التخلص من الأقرباء: إمّا القتل وإمّا الحجز.
الأخطر في عهد محمد الثالث لم يكن تمرّد الجند وحده، بل انفجار الأوضاع الاجتماعية في الأناضول فيما عُرف بـ الثورة الجلالية، التي تعود جذور تسميتها إلى ثورةٍ سابقة قادها الشيخ جلال في أوائل القرن السادس عشر ضد السلطان سليم الأول. ومنذ ذلك الحين صار اسم “جلالي” يطلق على كل حركة تمرّد في الأناضول. وكانت أسباب الثورة:
- الضرائب الباهظة التي فرضتها الدولة على الفلاحين لتعويض خسائرها وتراجع عائدات التجارة بعد تحولات المسالك البحرية العالمية.
- الأزمة الاقتصادية بتراجع الغنائم العسكرية، وانهيار موارد الدولة، فزاد الضغط على العامة.
- انحلال الجهاز الإداري، فالموظفون والجنود صاروا يعوضون نقص رواتبهم بمصادرة أملاك الفلاحين وزيادة الضرائب ظلمًا.
- تفاقم البطالة، حتى دُفع الفلاحون إلى ترك أراضيهم والهجرة للمدن، فتفاقمت الأزمة الغذائية.
خلال ذلك برز قره يازيجي، “الكاتب الأسود”، قائدًا خطيرًا للثورة. رفض تسليم منصبه لوكيل الدولة الجديد، فبدأ تمرّده الذي سرعان ما تحول إلى حركة مسلحة ضخمة. أعلن نفسه سلطانًا على الأناضول، ولقّب نفسه بـ”المظفر حليم شاه”، وعيّن خصوم الدولة في مناصب عليا. ورغم أن الدولة حاولت قمعه بقيادة حسين باشا، فإن الأخير تواطأ معه، ليُستغل لاحقًا ويُهان في شوارع إسطنبول قبل إعدامه.
انهزم قره يازيجي لاحقًا وقُتل عام (1601)، لكن أخاه ديلي حسن (المجنون) واصل التمرّد، حتى عرضت الدولة عليه ولاية البوسنة مقابل التهدئة.
أخذت الثورة الجلالية طابع “الحرب الأهلية”: قطاع طرق، فلاحون ناقمون، جنود فارّون، وحتى بعض ولاة الأناضول، جميعهم انخرطوا في التمرّد. لم يعد الأهالي يفرّقون بين جابي ضرائب رسمي ولصّ متنكر. وصارت الدولة عاجزة عن ضبط الوضع إلا بمجازر هائلة؛ إذ قُتل عشرات الآلاف، وقيل إن الآبار مُلئت بالجثث.
هنا يمكن قراءة عهد محمد الثالث من خلال ثلاث دوائر متشابكة:
- البيت العثماني: حيث استمرت سياسة القتل والحجز ضد الإخوة والأبناء.
- المؤسسة العسكرية: انقسمت بين فرقٍ مرتزقة (الإنكشارية، السباهية) غير منضبطة، تشعل التمردات عند كل أزمة.
- انهيا المجتمع الأناضولي تحت وطأة الضرائب والظلم، فحوّل أزمته المعيشية إلى ثورة مسلحة.
إنها صورة سلطنة فقدت قدرتها على الضبط الذاتي، وتحول سلطانها إلى مجرد “شاهد على الفوضى”، لا يمتلك من أدوات الحكم إلا الدم، بينما تتهاوى أركان الدولة من الداخل.
انتهى عهد محمد الثالث بعد تسع سنوات فقط، تاركًا لابنه أحمد الأول دولة مثقلة بالتمرّدات والديون. وإذا كان العثمانيون قد اعتادوا أن يبدأ حكم السلطان بقتل أقربائه، فإن عهد محمد الثالث أضاف صفحةً جديدة: الدولة كلها باتت ميدانًا لقتل جماعي، سواء في قصر السلطان أو في ريف الأناضول. لقد جسّد هذا السلطان ما يمكن تسميته بـ “فوضى العهد السلطاني”: حيث العرش لا يضبط الدولة، بل يفاقم تمزقها.