سلطان الغلمان!!

لم يكن اختطاف الأطفال من أسرهم المسيحية لصالح السلطنة العثمانية مجرد سلوك عسكري مندفع، او نتائج خارج السيطرة، او تصرفات يقوم بها الجنود لفرط حماستهم، بل المثير والمدهش انه كان قانونا غريبا ، لكنه منظم وله ديوانه وموظفيه وأقسامه وتصرفاته ونتائجه التي اثرت على السلطنة فيما بعد وجعلتها أسيرة لهؤلاء الغلمان، فبعدا  بعدما اسرتهم اصبحوا هم المتنفذين والمتحكمين والقصص في ذلك عديدة.

بدأت حكاية الغلمان في السلطنة بعدما أسس السلطان ديوانا خاصاً بهم، ينظم امورهم ويحدد طرق الاستفادة منهم، ويبرر كذلك اختطافهم من اسرهم بحجج وفتاوى استصدرها من رجال الدين، لقد وجد الغلمان أنفسهم بين ليلة وضحاها مقطوعين عن أسرهم وابائهم وأمهاتهم واراضيهم التي نشأوا بها، ليتم نقلهم الى ارض اخرى بعيدة ويعيشون بين امة غريبة، غير أمتهم وشعبهم بهدف خدمتها الانقطاع التام لذلك.

لقد كان القانون قاسيا جدا لدرجة غير إنسانية، حتى ان اولئك الغلمان يحرمون من الزواج طول حياتهم وليس لهم حق التصرف في حياتهم، ويبقون مملوكين للسلطنة حتى يموتون، وكأنهم اشبه بالمكائن، متفرغين لخدمة السلطان والسلطنة، وهو الأمر الذي انعكس على سلوكهم الجنسي والإنساني فيما بعد، وحول الكثير منهم إلى دمويين قاسين ومنحرفين شاذين، وما إن تتاح لهم الفرصة لاستباحة قرية او مدينة او أمة إلا وقاموا بذلك اشباعاً لرغبات حرموا منها، وكأنهم يعاقبون الخصوم على خطأ ارتكبه السلاطين في حقهم ليدفع ثمنه الأبرياء، وقصص استباحة الغلمان او من يسمون بالإنكشارية للمدن العربية والاوربية التي اجتاحوها دونها التاريخ، ودون القصص المروعة التي ارتكبوها.

ولعل اغرب ما في نظام الغلمان ان السلطان العثماني محمد الثالث اقره وفعله، وشكل ديونه الذي قام بفرض ضريبة على كل رعايا السلطنة في الأراضي المسيحية التي تسيطر عليها، ويقوم القانون على فرض ضريبة “بشرية” على كل اسرة مسيحية ونزعه من أحضان عائلته، حيث تقوم بتقديم أحد أبنائها لخدمة السلطان، ويتم تحصيل الابن وسوقه بعد ذلك من قريته الاوربية او القوقازية إلى الآستانة، ثم اعادة تكوينه من جديد بمواصفات عثمانية وتربيته ليكون مخلصا للسلطنة والسلطان.

وعادة ما يكون الطفل بين العاشرة والخامسة عشرة من عمره، ثم يلحق بمدرسة داخلية، ويقسمون هناك حسب امكاناتهم، فالأشداء منهم يحولون إلى الفرق العسكرية التي شكلت نواة جيش الإنكشارية، او حماية قصور السلطان وأسرته، اما الاقل همة فيتم خصيهم وإرسالهم إلى قصور السلاطين والأمراء كبار القادة، حيث يعملون داخل القصور ملحقين بالحرملك.

لقد كان أولئك الأطفال او ” الغلمان البيض” عماد الدولة العثمانية ووقودها لقرون عديدة، وكأنهم حطب يكبون في محرقة كبيرة لتبقى السلطنة تعمل وتعيش على اكتاف الأطفال الصغار، فما من مكان يحتاجه العمل إلا وأرسل الغلمان اليه، وخاصة القصور والدواوين والحاميات العسكرية.

انها قصة أطفال لا يملكون من أمرهم شيئا سوى أن سلطانا عثمانيا قرر ذات يوم قانونا ينزعهم من أسرهم ويحولهم إلى عبيد “بيض” تحت مسميات مختلفة من غلمان للقصور إلى إنكشارية في الحروب، لكنهم أبدا لم يكونوا راضين عن ذلك ولم تؤخذ موافقتهم، بل سرقوا عنوة من بين أسرهم.