العرش العثماني...

مقصلة الملوك

يصف الباحث في الشأن العثماني أحمد المهداوي السلوك السلطوي لسلاطين آل عثمان في صراعهم على الحكم وصفًا بالغ الدقة، كاشفًا مأساةً طالما أُخفيت خلف واجهة المجد الإمبراطوري التي صنعها مؤرخو البلاط. إذ يقول: “على امتداد ستة قرونٍ قدّمت الأسرة العثمانية ستةً وثلاثين سلطانًا، غير أنّ أغلب هؤلاء، ممن أسّسوا لبنيان الدولة، قدّموا أبناءهم وأشقاءهم وذويهم قرابين لإشباع وحشية العرش، أو كانوا هم أنفسهم ضحاياها”.

محمد الثالث: السلطان الذي اعتلى عرشًا مغموسًا بالدماء.

ويتربع على رأس تلك المقصلة السلطان محمد الثالث، الذي غدت أيامه شاهدًا على أكثر الفصول دموية في التاريخ العثماني. إذ تُقدّر ضحاياه – من إخوته وأبنائه وأبناء إخوته – بنحو خمسةٍ وعشرين نفسًا بريئة، كثيرٌ منهم من الأطفال، فضلاً عن النساء الحوامل اللواتي قُتلن طعنًا في أرحامهن بأمره وأمر والدته السلطانة صفية، خشية أن يولد طفلٌ قد يطالب يوماً بعرش أبيه. كان ذلك تفكيرًا مضطربًا غارقًا في هوس السلطة ورهابٍ من الخطر قبل أن يولد.

لقد شرعن سلاطين بني عثمان هذه المجازر بغطاءٍ فقهيٍّ صاغوه في ما عُرف بـ قانون “نامه”، وهو تشريعٌ يُبيح قتل الإخوة بدعوى حماية الدولة من النزاع على الحكم. وقد ورد فيه نصٌّ صريح يقول: “يمكن لأيٍّ من أبنائي، الذي سيهبه الله السلطنة، أن يتخلّص من إخوته لأجل مصلحة الدولة، وهو ما تقرّه غالبية العلماء”.

تحت مظلة هذا القانون، تحوّلت الوراثة إلى طقس دموي، يُقدَّم فيه الإخوة والأبناء قرابين لمعبد السلطان. فمحمد الثالث لم يكن استثناءً، بل وارثًا لتقليدٍ دمويٍّ بدأه أبوه مراد الثالث حين تولّى الحكم فقتل خمسةً من إخوته (محمد، سليمان، مصطفى، جهانكير، وعبد الله) خنقًا، ليؤمّن لنفسه عرشًا خاليًا من المنافسين. أما الابن محمد الثالث، فقد فاق أباه وحشية. إذ كان له تسعة عشر أخًا، أمرت والدته صفية بقتلهم جميعًا فور وفاة والدهم، بخيوطٍ من أوتار السهام الحادّة، قبل أن يُدفن السلطان مراد نفسه. وهكذا، دفنوا جميعًا – الأب وأبناؤه التسعة عشر – في لحظةٍ واحدةٍ تحت قباب إسطنبول، في مشهدٍ يجسّد ذروة الجنون السلطوي.

ويرى محمد فريد بك في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية أن هذه السياسة الدموية ليست طارئة على العثمانيين، بل متجذرة في أصل بنيانهم السياسي منذ عهد المؤسس عثمان بن أرطغرل نفسه، الذي افتتح مسيرة العرش باغتيال عمه دوندار طمعًا في الانفراد بالسلطة، ليؤسس تقليدًا ظلّ يتوارثه السلاطين جيلاً بعد جيل.

ويجمع المؤرخون على أن محمد الثالث كان أكثر سلاطين آل عثمان إقدامًا على الدماء، وأجرأهم على انتهاك الحرمات، حتى صار اسمه يقترن بكل ما هو دموي في تاريخ العرش العثماني. ويؤكد كتاب النظم السياسية في التاريخ الإسلامي (الدولة الأندلسية – الدولة العثمانية) أن جرائم قتل الأمراء في عهده وعهد والده مراد الثالث كانت أشدّ وضوحًا وظلمًا مما سبقها، إذ ترافقت مع فسادٍ في الحكم واستبدادٍ غير مسبوق.

وهكذا، غدا العرش العثماني مقصلةً مزخرفةً بالذهب، يعتليها السلاطين من فوق أكوام الجثث، ويمضون إلى قصورهم على وقع أنين الدماء التي أُريقت باسم “مصلحة الدولة”. إنها صفحةٌ من التاريخ طُمست طويلًا خلف أناشيد الفتوحات، لكنها تبقى شاهدًا على مأساةٍ إنسانية لا تقلّ فظاعة عن أي طغيانٍ عرفه التاريخ.

  1. أحمد آق وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العلمية، 2014).

 

  1. ألبير أورتايلي، إعادة استكشاف العثمانيين، ترجمة: بسام شيحا (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، ‎الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1980).

 

  1. محمد صوان، يوميات السلطان: الحوادث الهامة في تاريخ الدولة العثمانية ودلالاتها (الجزائر: دار الروافد، 2020).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدَّولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).