السلطان عثمان الثاني:
إصلاحٌ جريء ينتهي بالقتل
عندما اعتلى السلطان عثمان الثاني العرش، وجد دولةً تتّجه بخطى متسارعة نحو هاوية خطرة. كان يدرك أن العلّة لم تكن في مؤسسات الدولة الكبرى، بل في بنيتها العسكرية نفسها، التي أصبحت مرتهنة لفئة واحدة: الإنكشارية.
هذه الفرقة التي نشأت من أطفالٍ خُطِفوا من أوطانهم في نظام “الدوشيرمة”، ثم أُعيد تأهيلهم وتدريبهم، قبل إدماجهم في القصور السلطانية وإلحاقهم بالجيش؛ تحوّلت مع الزمن إلى قوة سياسية متغوّلة تتحكّم في السلطنة، تعيّن السلاطين وتخلعهم، وتفرض فسادها الإداري والاجتماعي على المجتمع والدولة.
كان عثمان الثاني يرى أن استمرار الدولة العثمانية مرهونٌ بإعادة السلطة إلى الحاضنة التركية، لذلك عزم على التخلص من هيمنة الإنكشارية واستبدالهم بجيشٍ جديد من أبناء أواسط الأناضول، حيث معاقل الأتراك الأصليين. بل إنه فكّر بنقل العاصمة نفسها من إسطنبول إلى داخل الأناضول، بعيدًا عن نفوذ الجاليات غير التركية من يونان وأوروبيين وإنكشارية. يقول صالح كولن في كتاب سلاطين الدولة العثمانية: “اعتقد السلطان عثمان الثاني أن علّة الدولة تكمن في رجال الدوشيرمة المتساهلين في الرشوة والمحسوبية والمتهربين من المسؤولية، ففكّر في الاستغناء عن موظفي البلاط من الإنكشارية، ليحلّ محلّهم جيشٌ جديد من سكان الأناضول، كما درس فكرة نقل العاصمة إلى الأناضول”.
لم يتوقف السلطان عند إصلاح المؤسسة العسكرية، بل اتجه إلى المؤسسة الدينية التي تغوّل فيها منصب المفتي حتى أصبح لاعبًا سياسيًا. فانتزع منه صلاحيات واسعة وأعاده إلى حدود مهمته الأصلية: الإفتاء الشرعي. ويشرح محمد فريد ذلك: “أصدر السلطان أمرًا بتقليل اختصاصات المفتي، ونزع سلطته في تعيين وعزل الموظفين، وحصر وظيفته في الإفتاء، حتى يأمن شر دسائسه التي كانت سببًا في عزل السلاطين قبله”.
وبعد هذه التمهيدات الداخلية، توجّه عثمان الثاني إلى حملةٍ عسكرية ضد بولونيا. لكنّ الإنكشارية أظهروا تراخيًا فاضحًا؛ إذ رفضوا مواصلة القتال وفضّلوا الراحة، مما دفع البولونيين إلى طلب الصلح. قَبِل السلطان مُكرهًا، واشتعل غضبه من كسل الإنكشارية وعجزهم عن تحقيق هدفه بضم بولونيا. ومن هنا ولدت في نفسه فكرة إبادة هذه الفئة وإلغائها تمامًا، فبدأ بحشد جيشٍ جديد مدرّب في ولايات آسيا، استعدادًا للخطوة الحاسمة.
اعتبرت الانكشارية الإصلاح ممنوعًا في قلب السلطنة العثمانية.
لكن الإنكشارية شعروا بالخطر، فثاروا قبل اكتمال خطة السلطان. وفي ٩ رجب ١٠٣١هـ الموافق ٢٠ مايو (١٦٢٢)، انقلبوا عليه، فعزلوه وأعادوا السلطان مصطفى الأول. ثم اقتحموا سراياه، وأهانوه إهانة غير مسبوقة، قبل أن يُساق إلى قلعة “يدي قله”، حيث كان داود باشا وعمر باشا الكيخيا وقلندر أوغلي في انتظاره؛ فقتلوه بدمٍ بارد. ويصف محمد فريد هذه اللحظة بقوله: “لم يبالوا بجرمهم العظيم”.
لقد تعامل الإنكشارية مع السلطنة كأنها إقطاعية تخصّهم وحدهم، يوجّهونها ويستنزفون مواردها ويخلعون سلطانها إن خالف أهواءهم. وهكذا انقلب السحر على الساحر؛ ابتلع الإنكشارية الدولة، وتحولوا إلى دولةٍ عميقة داخل السلطنة، وصار الجميع — سلطانًا وشعبًا ومؤسسات — مجرّد أدواتٍ في أيديهم.
- صالح كولن، سلاطين الدولة العثمانية (القاهرة: دار النيل، 2014).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1983).
- محمد فريد بك، الدولة العلية العثمانية (بيروت: دار النفائس، 1983).