اغتيال السلطان على يد جيشه:
لحظة الانكسار في بنية الحكم العثماني
يُعدّ قتل السلطان عثمان الثاني على يد الإنكشارية سنة (1622) لحظةً فاصلة في التاريخ السياسي للدولة العثمانية، لا بوصفه حادثة عنفٍ معزولة، بل باعتباره إعلانًا صريحًا عن تحوّلٍ خطير في توازن السلطة داخل الدولة، وانتقال القوة الفعلية من العرش إلى الجند. فقد مثّل هذا الحدث سابقة غير معهودة؛ إذ أصبح السلطان، رأس الشرعية السياسية والدينية، ضحيةً مباشرة لجيشه، في دلالة واضحة على عمق الأزمة البنيوية التي كانت تعصف بالدولة.
لم تكن السلطنة العثمانية في وضعٍ مستقرّ خلال حكم عثمان الثاني، ولا في السنوات التي سبقته. فقد كانت مؤشرات الاضطراب قد بدأت في الظهور مبكرًا، وتراكمت أزماتها على المستويات العسكرية والاقتصادية والإدارية. ورث السلطان الشاب دولةً مثقلة بالحروب مع الجار الشرقي إيران، واقتصادًا يعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع الموارد، واستشراء الفساد الإداري، نتيجة تركيبة حكم معقدة تشابكت فيها مراكز النفوذ وتنازعت الصلاحيات.
فقد تشكّلت بنية السلطة من أطرافٍ متنافرة: الأمراء، والحرملك، والإنكشارية، والمؤسسة الدينية ممثلة في الإفتاء والقضاء، والولاة وحكام الأقاليم، إلى جانب التجار والجاليات الغربية. هذه الشبكة المتداخلة من المصالح والقوى أفرزت دولةً مأزومة، تغيب فيها وحدة القرار، ويتقدّم فيها النفوذ على القانون، والغنيمة على المصلحة العامة.
اعتلى السلطان عثمان الثاني العرش عام (1618)، وكان في مقتبل عمره، لكنه سرعان ما أدرك حجم التحديات التي تواجه سلطنته. وكان أول ما سعى إليه هو إعادة ضبط العلاقة بين الدولة والإنكشارية، الذين تحوّلوا من مؤسسة عسكرية أنشئت لخدمة الدولة إلى قوةٍ مستقلة تفرض إرادتها عليها. فقد أدمنوا الامتيازات، وتغوّلوا في مفاصل الحكم، وأصبحوا طرفًا سياسيًا لا يقل نفوذًا عن السلطان نفسه.
صراع النفوذ تحت غطاء الإصلاح
لم يكن الصراع بين السلطان والإنكشارية صراعًا إصلاحيًا في جوهره بقدر ما كان صراعًا على السلطة والنفوذ. فقد وجد عثمان الثاني نفسه محاصرًا بشبكة مصالح متحالفة: الإنكشارية، وشيخ الإسلام، وقوى أخرى داخل القصر وخارجه، كان همّها الأساسي تعظيم المكاسب المالية، وتوسيع الإقطاعات، وضمان استمرار الامتيازات.
لم يستطع الانكشاريون احتمال تمدد ظل الإصلاح.
ولو أن السلطان اختار سياسة المساومة، ورضي بتقاسم الغنائم مع هذه القوى، لبقي في الحكم كما بقي غيره من السلاطين. غير أن اختياره طريق الإصلاح، وسعيه إلى تقليص النفوذ المالي والعسكري لتلك الفئات، جعله في نظرهم خطرًا وجوديًا يجب التخلص منه. وهكذا فُهم مشروعه الإصلاحي لا بوصفه محاولة لإنقاذ الدولة، بل بوصفه انقلابًا استباقيًا على مراكز القوة الراسخة.
أسباب اغتيال السلطان
يمكن تلخيص الدوافع التي قادت إلى قتل السلطان عثمان الثاني في جملة أسباب مترابطة: أهمها مشروعه الإصلاحي الذي استهدف الجيش والاقتصاد وبنية الحكم، وهو ما كان سيؤدي بالضرورة إلى تقليص نفوذ القوى المتغوّلة، وهو أمر لم تكن مستعدة لقبوله. كذلك خشية الإنكشارية من فقدان امتيازاتهم وسطوتهم، بعد أن تحوّلوا إلى مركز قوة مستقل داخل الدولة، يُضاف إليه نفوذ القصر وشبكات المؤامرات التي حُبكت ضد السلطان، أو بين القوى المتصارعة نفسها، ما أغرق الدولة في دوامة من الفشل والتآمر المتبادل.
وأخيرًا التأثير الأوروبي، ولا سيما الفرنسي، في بعض الأوساط العسكرية والسياسية، بما زاد من تعقيد المشهد الداخلي.
الطريق إلى القتل
كانت الهزيمة العسكرية أحد أهم العوامل المسرِّعة للأحداث. ففي عام (1621) فشل السلطان عثمان الثاني في استعادة بغداد من الإيرانيين، وهو إخفاق كان له وقعٌ بالغ في تقاليد الحكم العثماني، حيث يُعدّ النجاح العسكري معيارًا أساسيًا لهيبة السلطان وسيطرته على الجيش ومؤسسات الدولة.
فاستغلّ الإنكشارية هذا الفشل للتشكيك في كفاءة السلطان، وتهيئة الرأي العام داخل العاصمة وخارجها لخلعه أو قتله. وقادوا تمردًا واسعًا، مستندين إلى خيانات داخل القصر، وشراء الولاءات، والتحريض المنهجي ضد السلطان، حتى تهيأت اللحظة الحاسمة.
عملية الاغتيال
عُرف الإنكشارية بقسوتهم وشراستهم؛ فقد جُلبوا صغارًا من أسرهم الأوروبية، ونُزعوا من جذورهم الاجتماعية، وأُعيد تشكيلهم بوصفهم آلة حرب خاضعة للنظام العسكري. ومع الزمن، تحوّلوا إلى قوةٍ لا تتحرك إلا دفاعًا عن مصالحها. وحين شعرت هذه المصالح بالتهديد، انقلبوا بلا تردّد إلى أداة قتل. واحتجز الإنكشارية السلطان عثمان الثاني، وسعوا إلى إرغامه على التنازل عن العرش. وحين رفض، قُتل خنقًا داخل قصره. وتشير ماجدة مخلوف إلى أن التمرد استند إلى فتوى من شيخ الإسلام بوجوب قتل من “يتسبب في الفتنة، وهو ما يكشف مجددًا توظيف الدين لتبرير العنف السياسي. وأُعلن مصطفى الأول، المضطرب عقليًا، سلطانًا للمرة الثانية، بوصفه الخيار الآمن للإنكشارية.
نتائج الاغتيال
لم يكن مقتل عثمان الثاني نهاية سلطان فحسب، بل نهاية أول محاولة جادة لإصلاح الدولة العثمانية من داخلها وفق نموذجها الخاص. فقد أصبح أول سلطان يُقتل على يد جنده من القابي قولو، في إشارة واضحة إلى استفحال نفوذهم وتحولهم إلى قوةٍ فوق الدولة. وأسفر الاغتيال عن نتائج بعيدة المدى: منها تعاظم نفوذ الإنكشارية في الحياة السياسية، وانحسار أي مشروع إصلاحي جاد، إضافةً إلى استمرار التدهور الاقتصادي والسياسي، وتكريس سابقة خطيرة جعلت العرش رهينة رضا الجند.
وهكذا، لم يكن اغتيال عثمان الثاني حادثة عرضية، بل لحظة كاشفة عن مأزق الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، حين غلبت مراكز القوة على فكرة الدولة، وتحوّل الإصلاح إلى جريمة، والسلطان إلى ضحية نظامٍ صنعه أسلافه ثم عجز عن ضبطه.
- خالد زيادة، الكاتب والسلطان: من الفقيه الى المثقف، ط4 (بيروت: الدار المصرية اللبنانية، 2020).
- صالح كولن، سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين (القاهرة: دار النيل، 2014).
- ماجدة مخلوف، الدولة العثمانية من الإصلاح الى الحداثة (القاهرة: دار البشير، 2021).