الجنرالات الفاشلون..

آباء العنصرية العثمانية..

يوصف أنور باشا في التاريخ بأنه أول من أسس وشرعن العنصرية التركية، صحيح أنها كانت سلوكًا يسري في كل مفاصل الحياة العثمانية، مؤثرة بشكل عميق في العلاقة بين العنصر التركي الحاكم وبين الشعوب الأخرى المضطهدة والقابعة تحت احتلالهم.
أنور باشا وضع قوانين تلك الطبقية العثمانية وإجراءاتها التي تحرم اللغات القومية الأخرى داخل السلطنة وألغت الحرف العربي، وحرَّمت التعامل والتعليم بغير اللغة التركية، عنصرية لا تزال تعيش بين الأتراك إلى يومنا هذا، وقد كشف أنور باشا ذلك علانية في خطاب شهير له عن إيمانه بتفوق العرق التركي قائلا: “الأتراك ليس وطنهم تركيا ولا حتى تركستان، إنما هو إقليم هائل خالد، هم كل العالم”، هذه النظرية هي ما دفعت أنور للتحالف لاحقًا مع الألمان الذين كانوا أيضا مؤمنين بتفوقهم العرقي على أقرانهم.
ولد إسماعيل أنور باشا في إسطنبول 22 نوفمبر (1881م)، لوالد بسيط من طبقة العمال وحراس الجسور، ومع ذلك فقد ترقى في السلم العسكري حتى وصل إلى جنرال ووزير حربية بسبب قوميته المفرطة والتحاقه بجمعية الاتحاد والترقي التي كانت مخرجًا فعليًّا للسياسات العثمانية داخل تركيا وخارجها.
نتيجة لتحالف السلطنة العثمانية مع الألمان إثر نصيحة من وزير الحربية أنور باشا، تولى “الباشا” بناء جيش قوامه أكثر من مليوني جندي ونصف المليون، نصفهم على الأقل من العرب، والنصف الآخر من الأقليات التي تعيش داخل السلطنة، وكالعادة فالقادة أتراك عثمانيون والجنود مرتزقة ومجندون تحت الإجبار من الشعوب المحتلة تحت سلطتهم، كان التجنيد إجباريًّا، وسحب الشباب العربي بالقوة الجبرية من الشوارع والميادين للجبهات، وقدر عدد القتلى بما يزيد عن 700 ألف، لقد كانت مذبحة فعلية مات الجنود فيها بسبب بؤس العمليات العسكرية وضعف الإمدادات، وكثير منهم مات جوعًا ومرضًا، كما أُصيب ما يزيد عن 400 ألف، وأُسر 200 ألف آخرون.
كان أنور باشا من أصدر قرار ما يسمى بـ “التكاليف الحربية” وهو قانون ألزم العرب مرغمين بتقديم الدعم العسكري والمالي والغذائي للجيوش العثمانية وحلفائها الألمان، لقد جاع العرب من أجل تحقيق الطموحات والمغامرات العثمانية، وفني شباب العرب للسبب نفسه، وقدر عدد القتلى من الشبان العرب بأكثر من 250 ألفًا، وأعيق وأصيب وفُقد أكثر من 50 ألفًا آخرين، فضلا عن إعدام عشرات الآلاف ممن رفضوا الخدمة العسكرية، أو امتنعوا عن إمداد المجهود الحربي، ذلك القانون وما تبعه هو ما جعل سمعة أنور باشا باعتباره سفاحًا وقاتلاً منتشرة في البلدان العربية المحتلة من العثمانيين.
لم يكن أنور باشا قائدًا عسكريًّا فذًّا كما يروج عنه العثمانيون الجدد اليوم بل سفاحًا بمرتبة جنرال فاشل، والكثير من المعارك التي خاضها انتهت بخسائر فادحة، ولعل هزيمته في معركة (ساريكاميش) أمام الروس هي التي شكلت شخصية السفاح فيما بعد، فقد كان يظن نفسه قائدًا عسكريًّا فذًّا، فإذ به يفشل في معاركه واحدة تلو الأخرى، وكان أنور باشا قد عين قائدًا للقوات العثمانية في الحرب التي دارت ضد الجنود الروس في الجبهة القوقازية، حيث رغب الباشا الصاعد في طرد الروس من المناطق الشرقية واستعادة سيطرة العثمانيين على المناطق التي تنازلوا عنها لصالح الروس بعد الحرب الروسية العثمانية التي جرت بين الأعوام (1877-1878م)، لكن أنور باشا هزم رغم قيادته لجيش مؤلف من تسعين ألف جندي، قتل منهم عشرات الآلاف بسبب تجاهله عوامل التضاريس والطقس في مناطق شرق الأناضول والقوقاز، وبعد عودته إلى القسطنطينية مكلَّلاً بعار الهزيمة، لم يجد غير توجيه الاتهام إلى الجنود الأرمن وادَّعى أنهم السبب في فشل حربه ضد الروس، وهي التهمة التي دفعته إلى محاولة القضاء على بقية الأرمن.
كان أنور باشا أحد الضباط الذين أداروا الحكم تحت لواء السلطنة العثمانية “المريضة”، كان حينها شابًّا لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، مفتقدًا الخبرة السياسية والعسكرية، لكنه يمتلك أهم ميزة عثمانية “أنه من عرق “تركي” خالص”، وذلك كان جواز سفره للترقي والتمكين.
أخفق أنور باشا في التعامل مع الشعوب العربية ووسموه بالسفاح، في مصر وفلسطين والشام وليبيا، وفشل أيضا في اللعب على حبال السياسة، وانكشف ذلك في تحالفه مع الألمان وخوضه حربا فاشلة دون استعداد ولا تسليح سوى حشد بشري غير مدرب ذهبوا ضحايا في محرقة المعارك أمام الحلفاء.
أنور باشا لم يكن لوحده إذ قاد مع من يطلق عليهم الباشوات الثلاثة تلك الجرائم والمذابح في حق الشعوب والأمم المحتلة من العثمانيين، وقد حاولوا مغادرة طوق الاحتلال باتجاه الحرية فجوبهوا بالإبادة والقتل الجماعي، وهم (طلعت باشا وزير الداخلية، وأنور باشا وزير الحرب، وجمال باشا وزير البحرية) نتج عنها الملايين من الضحايا العرب واليونان والبلغار بين قتيل ومشرد ومهجر، إضافة إلى الأرمن الذين تقدرهم كثير من المصادر بأكثر 1.5 مليون ونصف قتيل.
المجازر في حق الأرمن لم تبدأ في عهد الباشوات الثلاثة بل بدأت قبل ذلك بعقدين ونصف، وهو ما يؤكد أن سياسة الإبادات الجماعية لم تكن نهج جمعية الاتحاد والترقي فقط كما يحاول بعض الرومانسيين المدافعين عن الحقبة العثمانية تسويقها، بل هي سياسة عثمانية ممنهجة.
بدأت معاناة الأرمن مع نهاية الحرب العثمانية الروسية سنة (1878م) التي هزم فيها الجيش العثماني هزيمة قاسية على يد الروس، الأمر الذي دفع كبرياء العثمانيين إلى أن يبحثوا عن ضحية يحملونها وزر فشلهم، فلم يجدوا غير الأرمن موجهين أصابع الاتهام إليهم مُحَمِّليهم مسؤولية خسارتهم الفادحة.
اتُّهم السكان الأرمن المقيمون بالأراضي العثمانية بالتآمر على الدولة ومساندة الإمبراطورية الروسية، لتبدأ إثر ذلك عمليات إبادة الأرمن التي بلغت ذروتها ما بين عامي (1894 و1896م) ضمن ما عرف بالمجازر “الحميدية”، نسبة إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، التي أسفرت في أول وجبة عن مقتل نحو 250000 أرمني، ليتلوها عدد من المجازر والترحيل والتجويع والإهلاك في بادية الشام على مدى السنوات اللاحقة.
سكان الشام والعراق واجهوا أيضًا عنفًا من نوع آخر ارتكبه جمال باشا – وزير البحرية العثماني- وحاكم العراق والشام ثاني السفاحين الباشوات الذي فرض حصارًا بحريًّا بدأ العام (1915م) إضافة إلى تطويق الشام مع حدود الأناضول، جمال باشا لم يكتف بذلك بل صادر ما تبقى من محاصيل وغذاء وأموال دعمًا للمجهود الحربي، أدى ذلك الحصار إلى مجاعة مات إثرها نحو 200 ألف، والاستبداد العثماني لم يتوقف على حد، فجمال باشا قرر تجريف المجتمع المدني في الشام من قياداته ورجاله من القوميين العرب أو الأعيان من أصحاب الرأي والزعامة، فأمر بنصب الخوازيق والمشانق، وأعدم الكثير منهم من مختلف مدن الشام، وبالطبع كانت التهم جاهزة من الدعوة للانفصال إلى التخابر مع الإنجليز والفرنسيين، نفذت أحكام الإعدام بين عامي (1915-1916م) في ساحة البرج في بيروت، ولذلك سميت ساحة الشهداء، وكذلك في دمشق.
ثالث الباشوات كان وزير الداخلية طلعت باشا الذي وصل إلى منصب الصدر الأعظم في السلطنة أكثر من مرة، ولم ترتكب جريمة ولا مجزرة في حق الشعوب التي احتلها العثمانيون إلا وكان لهذا السفاح ورفاقه يد فيها، أو توجيه أو فرمان.
لم تكن نهاية الباشوات الثلاثة إلا تتويجًا لتاريخهم الطويل في الإجرام، فأنور باشا لم يكن أمامه بعد فشله الذريع في كل ما أوكل إليه من مهام عسكرية إلا إشعال حرب أخرى ضد البلاشفة الروس، وأنشأ ما يسمى بجيش الإسلام العثماني، الذي هدف منه إعادة الإمبراطورية العثمانية إلى ما كانت عليه بعدما بدأت نذر التفكك وانفراط العقد تلوح في أفقها بل وصلت إلى كثير من أجزائها، وأخيرًا اغتيل في بخارى خلال حربه المفتعلة ضد الحكومة البلشفية عام (1922م)، أما طلعت باشا فقد هرب من جرائمه إلى ألمانيا ليُغتال هناك في برلين عام (1921م) على يد ناشط أرمني، وأخيرًا لم يكن مصير جمال باشا بأحسن من رفيقيه إذ اغتيل هو الآخر في مدينة تبليسي عام (1922م) على يد لاجئ أرمني؛ عقابًا له على جرائمه في حق الأرمن.