السفاحون الثلاثة

ذبحوا "الإنسانية"

بـ "حقائب" وزارية

لا يسوء البلدان مثل قادتها الطغاة وحُكامها الجبابرة حيث تهمش الإنسانية أمام ديكتاتوريتهم، ويسود الباغي، وتتحول البيئة إلى دموية تكون أقرب لحاضنة نموذجية للفاسدين والمجرمين والطغاة بما توفره من ظروف سياسية واجتماعية مواتية لصناعة “المجرم” وهذا يمكن التدليل عليه ببدايات القرن العشرين الميلادي في المنطقة العربية، فقد كان الأتراك والعرب في تلك المرحلة التاريخية على موعد مع حقبة زمنية يمكن توصيفها بأنها الأقسى والأعنف، فمع ظهور (السفاحين الثلاثة) اكتملت حلقة التسلط والاستبداد واستحكمت.
أطلق بعض المؤرخين والباحثين المختصين على أنور باشا وجمال باشا، وطلعت باشا (السفاحين الثلاثة) من خلال جرائمهم بعد توليهم حقائب أهم ثلاثة وزارات سيادية، أتوا إلى الدولة من باب جمعية الاتحاد والترقي التركية، وأسهم كل واحد منهم في إقحام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى من خلال مواقعهم الوزارية في الدولة باعتبارهم قادة للسياسة والعسكرة العثمانية التي انتهت بهزيمتهم والحليف الألماني وقبولهم بشروط المنتصرين، لكنهم بالرغم من حالة وطنهم الحرجة أثناء الحرب استغلوا ما أودت به من الارتباك في الدولة والضعف والتخلخل السياسي لصالحهم في السرقة والقتل والتجويع وتعزيز حركة التتريك.

رمتهم "ألمانيا" على "قارعة" الأرمن

الداخلية.. الحربية.. البحرية: "دموية" بامتياز

حصل طلعت باشا على منصب وزير الداخلية، وأنور باشا على منصب وزير الحرب، ونال جمال باشا حقيبة وزارة البحرية، بعد ثورة الاتحاديين، وقبل انتهاء الحرب كانوا قد مارسوا أبشع المجازر والإبادات الجماعية والقتل المتعمد في صفوف الرعايا العرب وغيرهم، وأبرز هذه المذابح التي لا زال صداها قائما حتى اليوم مذبحة الأرمن التي ذهب ضحيتها ما يقارب (1.5) مليون، إضافة لمئات الآلاف من السكان الآشوريين واليونانيين.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فرّ الثلاثة إلى ألمانيا، فحوكموا غيابيًا، ووجهت إليهم تهمٌ بإقحام تركيا في الحرب العالمية الأولى وارتكاب مذابح إنسانية وفظائع بحق بعض الشعوب التابعة لاسطنبول كاليونانيين والأرمن، لتصدر بحقهم أحكام غيابية بالإعدام سنة 1919م.

طلعت باشا

مُنظِّر الجرائم التركية

محمد طلعت باشا، وزير الداخلية في حكومة الانقلاب ولد في (أدرنة) عام 1874، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، كما تخرج من الرشدية العسكرية منها أيضًا.
يُعدّ مهندس سياسة جمعية الاتحاد والترقي التي عارضت عبد الحميد الثاني وأطاحت به، وهو من أهم مديري الجمعية. كان في شبابه من المثقفين المتعمقين في الفكر التركي؛ مما كوّن لديه أفكارًا ثورية، لذا انضم إلى الاتحاد والترقي التي رأى فيها توافقًا مع فكرته عن الثورة العامة، لكن السلطات التركية قبضت عليه وأرسل إلى سجن أدرنة محكومًا عليه بالسجن ثلاث سنوات وعُزِلَ من وظيفته عام 1896 غير أنه نجا من السجن، ونفي إلى (سالونيك) التي شغل بها وظيفة كاتب في إدارة البريد والتلغراف عام 1898 وفي أثناء اشتغاله في إدارة البريد والتلغراف كان يقوم بإرسال الصحف المعارضة سرًا من خارج البلاد إلى (سالونيك) واستخدم كل الطرق لتنظيم المعارضة السياسية، فقد بذل قصارى جهده لتنظيم معارضي حزب المعارضة في انتفاضة 1903.
وبعد توليه وزارة الداخلية سنة 1913 أصبح طلعت باشا من أهم المحددين السياسيين للدولة، وأصبح مع رفيقيه أنور وجمال سلطنة داخل السلطنة، وبالرغم من أنه كان ضد دخول العثمانيين طرفاً في الحرب العالمية الأولى إلا أن له دور مركزي في إصدار القرارات بالإقدام على مذبحة الأرمن، وأشرف على اعتقال كبار المفكرين والمثقفين الأرمنيين وإعدامهم، وتابع عملية تنفيذ أوامر ترحيل وتهجير الأرمن من قراهم، والتي كان قد أصدرها في وقت سابق، لذا عُدّ من المسؤولين المباشرين عن هذه الجرائم الإنسانية.

يتمتع بسادية التحريض على القتل

الشذوذ "البكتاشي" أسهم في صقل موهبته الإجرامية

وعُين في مقام الصدر الأعظم، وانتسب للطائفة البكتاشية، وعندما هزم البريطانيون الجيوش العثمانية على الجبهتين عام 1918وتضخّم ملف طلعت باشا الإجرامي، وبدأت قضايا الفساد والانتهاكات الإنسانية تلاحقه، شعر بالخطر، وقدّم استقالته وهرب مع أنور باشا وجمال باشا إلى برلين، غير أن توفيق باشا الذي أسس الوزارة الجديدة أصدر قرارًا بمصادرة أموال طلعت باشا ورفاقه المتبقية في البلاد، وبعد تشكيل حكومة فريد باشا أنشأ ديوان حرب جديد من أجل محاكمة شيوخ جمعية الاتحاد والترقي وأصدر قراراً بإزالة رتب ونياشين الباشوية لطلعت باشا، وحكم عليه غيابيًّا بالإعدام.
ونظرًا لما ارتكبه من مجازر بحق الأرمن فقد ظلت أعماله الإجرامية تلاحقه في منفاه، وقُتل طلعت باشا في برلين عام 1921م أمام منزله على يد الناشط الأرمني (سوغومون تهليليان)، وبعد محاكمة استغرقت يومين للناشط الأرمني أعلنت المحكمة الألمانية براءته وأطلقت سراحه؛ نظراً للجريمة التاريخية التي اقترفها المقتول.
تشغيل الفيديو

أنور باشا

قاتل بملامح "رومانسية"

ولد أنور عام 1880 في إسطنبول، والتحق بالكلية الحربية ليتخرج منها ضابطًا في فيلق “سيلانيك” ثم رئيسًا لهذا الفيلق في تونس، شارك في عملية خلع عبدالحميد الثاني، ليُكافأ بعد ذلك بمنصب “وزير الحرب” بعد انقلاب الباب العالي 23 يناير 1913.
سِجلّ أنور باشا حافل بالإجرام؛ فقد أشاعت سيرته منذ أن استلم الوزارة رائحة الدم الذي سفكه وشارك فيه، ووصف بأنه قائدٌ مستبدٌ، أدار البلاد من موقعه القريب من السلطنة إلى الطريق المؤدية إلى الهاوية، التي هي الأخرى جنت ما صنعته من بيئة لإنتاج المجرمين والمستبدين، فقتلت نفسها بنفسها وبأيدي أبنائها في معادلة يجيد صياغتها التاريخ لمعاقبة مخالفي العدل والمساواة وتحقيق التنمية البشرية وإعمار الأرض.
حماقاته التي أنتجها بطشه بمقتل (20) ألفًا من جيشه بسبب شدة البرد الذي لم يحسب حسابه عندما أراد مهاجمة روسيا من جهة القوقاز، ولا يُذكر أنور باشا إلا وتطل العنصرية بوجهها الأسود ويَرْشح كرهه المتجذر للعرب، فكان يرى من موقعه كوزير حرب بأن الأتراك هم الأولى بقيادة العالم، وما وقعة (سَفَرْ برْلَك) بإجبار الرجال والشباب في الولايات العربية إلى الانضمام إلى الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى 1914 إلا بعضٌ من ويلاتها، حيث قُتل وأُسر الآلاف من العرب الذين جرى تحشيدهم بالقوة في هذه الحرب، ومن رفض الذهاب أُعدم، فشُرِّد كثيرٌ من الأسر.

تلقى الرشوة ليُهاجر 20 ألف يهودي إلى فلسطين

أغرقته أحلامه الديكتاتورية بالدم

كان أنور من أشد المخلصين للماسونية؛ يقول في حديث له مع جمال باشا: “أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا الحقيقي؟ وبعد تحسر عميق، قال: “أصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية”.
عندما قامت الحرب العالمية الأولى كان أحد الذين استفادوا من الرغبة اليهودية في استيطان فلسطين، فدخل أثناء تلك الحرب (20) ألف يهودي إلى فلسطين بعد أن قدّموا الرشاوي إليه.

بعد الخسارة الموجعة لتركيا في الحرب، فرّ هو ورفاقه إلى ألمانيا ثم إلى روسيا، لينتهي به المطاف مقتولًا في 4 أغسطس 1923.

وفي الفترة التي عاشها بعد هربه كان يسعى لإقامة إمبراطورية تركية تشمل تركستان وأفغانستان، بعد أن عقد اتفاقيةً مع الروسي لينين الذي سعى هو الآخر إلى الاستفادة من أنور في القضاء على ثورة تركستان ضد روسيا.

جمال باشا

مهندس مسيرات "الموت"

ولد جمال باشا سنة 1872 في اسطنبول، والتحق بالأكاديمية الحربية وتخرج فيها سنة 1895، كان رجل سياسة أكثر منه رجل حرب، تدرج في مناصب قيادية وحربية عدّة، حتى أصبح واليًا على بغداد سنة 1911. شارك في حرب البلقان ثم عاد بسبب مرضه، وبعد انقلاب 1913الذي شارك فيه، تسلّم منصب الوالي العسكري لإسطنبول، ثم بعدها وزارة الأشغال، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 عُيّن وزيرًا للبحرية، وأصبح قائدًا للجيش الرابع في منطقة الشام ومصر، وواليًا مطلق الصلاحية على سوريا وفلسطين ولبنان حتى عام 1917متخذًا من دمشق مقرًا لقيادته.
خدع العرب في بداية وصوله الشام، بالحديث عن إحياء التراث العربي واللغة العربية والمجد العربي، لكن!! كلّ أعماله أظهرت معاداته للفكرة العربية وخوفه منها، مما دفعه إلى نشر جواسيسه، وتتبّع أخبار رجالات الحركة الثقافية العربية.
لقد كان تتريك العناصر العربيّة أبرز سياسات جمال باشا التي قاومها الأحرار العرب، وتجاوز التتريك إلى التنكيل بالعرب، والفتك بزعمائهم، حتى أصبح مهووسًا بالإعدامات، وكأن السادية قد رانت على فؤاده؛ فلاحق المثقفين والقوميين العرب بالشام، ونصب لهم المشانق في بيروت ودمشق.

تلذذ بتعليق المشانق للعرب الأحرار

لقد كان الإرهاب والبطش من مبادئه، حتى خاف النّاس عندما رأوا صبيحة 21 آب 1915 الجثث المعلّقة، وشعر جمال باشا بالراحة لهذا الخوف، وأسرع في تلافي موجة السّخط العارمة الّتي حلّت بالّذين لم يصدّقوا أنّ من أعدمهم كانوا حقًّا خونة”، فقد كانت (مسيرات الموت) التي ضمت الأطفال والنساء والشيوخ تنتهي بإبادات وانتهاكات بمناطق قابعة تحت سيطرته كدير الزور بالشام.
أما سنة 1916 فقد كشف حقده على الفكر العربي وأعلامه بالرغم من مناداته للتوحد للنهوض بالتراث العربي وإحيائه حين قُتل فيها ظلمًا بأمر جمال باشا جملة من نخبة الكتاب وأهل الأدب من المسلمين والنصارى، فقد أعدم (21) شخصية عربية، من بينهم أعضاء في مجلس الأعيان العثماني دون محاكمة، وعلى رأسهم عبد الكريم الخليل ومحمد، ومحمود المحمصاني، ونور الدين القاضي، والأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والكاتب رشدي الشمعة والشاعر الأديب شفيق بك مؤيد العظم، والشاعر رفيق رزق سلوم، والمفكر والصحفي عبد الحميد الزهراوي.
لم تكفِ بلاد الشام نهم استبداد السفاح جمال باشا الجامح فهدد الجزيرة العربية باختراق نجد بطابورين من جنده، فرد عليه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- بأدبه وحلمه: “سنقصر لكم الطريق إِن شاء الله”.
زادت جرائم وزير البحرية عندما حصل على صلاحيات إضافية واسعة، فاقترف من الموبقات ما يندى له جبين الإنسانية، وأخذ يصادر المحاصيل، ويفرض الإعانات للجيش باسم التّكاليف الحربية، وضيَّق على الناس معايشهم؛ فعلى الرغم من معاناة اللبنانيين من نقص واضح في المواد الغذائية بداية سنة 1915 بسبب الحصار البحري المفروض عليهم وهجوم الجراد، تجاهل جمال باشا معاناة الأهالي فعمد إلى مصادرة محاصيلهم لإطعام جنوده متسبباً بذلك في تفاقم معاناة اللبنانيين وظهور مجاعة أودت بحياة نحو (200) ألف لبناني أي ما يعادل نصف السكان.
تعدّت جرائم جمال إلى التهجير القسري للجنود العرب، ونقلهم إلى مناطق بعيدة، مما أدّى إلى زيادة إحساس العرب العميق بالظّلم، فحشد جمال جنود الرعايا العرب بالقوة ليشن بهم هجمات متعددة على شبه جزيرة سيناء، محاولًا الاستيلاء عليها، لكنه خسر في كل الهجمات، وبعد هذه الهزائم والفشل الذريع استدعي إلى اسطنبول وبقي هناك إلى أن حان الوقت لهروبه خارج تركيا.
وعندما هُزم الأتراك في الحرب العالمية الأولى، استقال جمال باشا من الوزارة، ثم هرب هو وطلعت وأنور على متن إحدى السفن نحو الأراضي الألمانية، ومن برلين انتقل إلى سويسرا، وقد اتجه جمال باشا لاحقاً عقب حلوله بألمانيا نحو روسيا التي قامت فيها الثورة البولشفية وهيمنة الشيوعيين على الحكم.

"اللعنات" شيعته مقبورًا عام 1922

جرت محاكمة جمال باشا غيابيًا، حيث اتُهم بالمشاركة في إبادة الأرمن، وبقي الثأر من القادة الأتراك المسؤولين عن المجزرة يؤجج قلوب الأرمن، فكانوا يقتصون من المجرمين الأتراك متى ما سنحت الفرصة لذلك، وفي يوم 21 يوليو 1922 وفي العاصمة الجورجية تبليسي سقط جمال باشا برصاصات صائبة على يد ثلاثة من الأرمن، وهكذا كانت نهايته، تُشيّعه اللعنات.