الإسلام العثماني..
واجهة سنية وعقيدة باطنية بكتاشية!!
إذا كان هناك من وصف يمكن أن يطلق على العقيدة “البكتاشية” العثمانية التي هيمنت على الدين والحياة السياسية والاجتماعية في تركيا العثمانية لعدة قرون، فلا أقل من أن يكون “دين ثلاثي الأوجه” الواجهة إسلامية والثانية وثنية والثالثة مسيحية، لكن في داخلها خليطًا من الأفكار والتعاليم الشيعية والمسيحية والوثنية والعقائد الباطنية الفاسدة، التي استُوردت من أواسط آسيا وإيران إلى الأناضول على يد “الحاج بكتاش ولي”.
وليس مفهومًا كيف استطاع العثمانيون التقريب بين الإسلام السنِّي الذي ادعوا ظلمًا أنهم حماته وسلاطينه وبين البكتاشية الصوفية التي تستند في أصولها العقدية على المذهب الشيعي الإثنى عشري الجعفري، وعند الدخول إلى عوالمها وطرق تعبدها نجدها طريقة صوفية باطنية اعتمدت في أساسها على الطرق الصوفية الحيدرية والقلندرية الشيعية.
الإسلام العثماني يقدم نفسه كونه حنفيًّا سنيًّا، لكن روحه البكتاشية متداخلة ومهيمنة على روحه وتفكيره وطرق تعبده، هذا المزيج الغريب لقي لدى العثمانيين قبولاً؛ لأنه ربطهم مع أصولهم العقائدية التي هاجروا منها في أواسط آسيا.
خلطة عجيبة أفرزت ما يمكن تسميته بالدين العثماني الذي ظهر في أواسط الأناضول لينتشر بعد ذلك عند معظم الأتراك، لكنه في الوقت نفسه أعطى للسياسي العثماني مرونة دينية وغطاء رومنسيًّا دون التقيد الحرفي بتعاليم الإسلام التقليدية، لتصبح سياسات السلاطين في نهاية الأمر واجهة سنِّيَّة وعقيدة باطنية بكتاشية.
وعند تعريف البكتاشية التركية تُجْمع الكثير من المصادر على أنها طريقةٌ صوفيَّةٌ تُرْكيَّةٌ تُنْسَب إلى الحاج بِكْتَاش وَلِيّ، انتشرت في الأَناضول في بداية الأمر ثم في بقية الأقاليم التركية، وتستمد البكتاشية تعاليمها في شكلها البنيوي والإيديولوجي من “المشرب” الإثنَي عشري وبالأخص تعاليم الطُّرق القَلَنْدَرِيَّة والحَيْدَريَّة، إضافة لمعتقدات اجتماعية وثنية تسللت لها من خلال الدِّيانات القديمة التي آمن بها الترك قبل إسلامهم.
يقول ممدوح غالب بري في كتابة “تاريخ التصوف في الدولة العثمانية” عند وصفه للبكتاشية وعلاقتها بالدولة العثمانية:
“إلا أن – الدولة العثمانية- حافظت على التَديُّن الشعبي الذي رافقها منذ مرحلة نشأتها الأولى، وكان يُختزل بالطرق الصوفية بما فيها الطريقة البكتاشية التي هي خليط من أديان قديمة وفلسفات ومذاهب وموروث حضارات الأناضول وبلاد خراسان، وأخذت البكتاشية عن المسيحية واليهودية”.
فاستخدم السلاطين العثمانيون الطريقة البكتاشية لتكون عقيدة الجيش الإنكشاري الذي هو في أساسه خليط من مرتزقة وأيتام مخطوفين من أُسَرٍ مسيحية، لقد ساعدت المضامين المسيحية داخل البكتاشية كثيرًا في انخراط الإنكشاريين داخل الجيش العثماني، لدرجة أنها سيطرت بشكل كامل على حياتهم وغذت روح القتال عندهم، وحولتهم إلى أدوات في أيدي مرشدي البكتاشية والسلاطين العثمانيين الذين استطاعوا توجيههم للقيام بكل الأعمال “القذرة” من القتل والترويع والإبادة لخصوم السلطنة العثمانية، حتى أصبح لكل ثكنة إنكشارية مرشدها الخاص – كما تورد ذلك المصادر التاريخية-، لقد تحولت الطريقة البكتشاية إلى المهيمن الأول على العقيدة العسكرية للإنكشاريين.
أما التوظيف السياسي للبكتاشية فقد كان جسر أمراء بني عثمان في السيطرة والحكم على الشعوب والأقاليم المحتلة، ولعل أهم ما فعلته البكتاشية هو توحيد معظم الطرق الصوفية والفرق الباطنية الدينية لمختلف الطوائف العثمانية تحت عقيدة واحدة جديدة كانت هي الطريقة “البكتاشية”، لتتحول من طرق متعددة متنافسة إلى دين جديد تحت مسمى البكتاشية.
والبكتاشية في حقيقتها الباطنية ليست مشربًا أو ذائقة صوفية كما يدعي العثمانيون الجدد في سبيل دفاعهم عن تسامح السلاطين العثمانيين معها، لكنها مغمورة بالعقائد الخاصة التي تميزها عن غيرها وتشكل فسيفساء عوالمها الباطنية الخفية، وخاصة فكرة الإنسان الإله، وكذلك الثالوث المقدس “الله – محمد – علي”، وهو ما يجعلها قريبة الشبه بالمسيحية.
لقد احتفظ السلاطين العثمانيون بالعقيدة البكتاشية داخل الإسلام السني العثماني، لكنهم قدموا أنفسهم في العالم العربي كونهم مسلمين سُنَّةً أحنافًا، كانوا يعلمون أن المحاذير العقدية عند العرب السُّنَّة عالية الحساسية، ولذلك كان للدين العثماني التركي وجهان مختلفان، أحدهما داخلي يغذي الروح الإيغورية التركية المحملة بعقائد خراسان وأواسط آسيا الوثنية، والآخر باتجاه العرب وخصوصًا الجزيرة العربية.
صحيح أن الطريقة البكتاشية انتشرت بشكل محدود في بعض الأقاليم فظهرت في الشام ومصر والجزائر، إلا أنها فشلت في أن تحظى بموطئ قدم لها في الجزيرة العربية، حيث كانت الدعوة الإصلاحية بقيادة الإمام محمد بن سعود حائط صدٍّ صلب تساقطت معه العقائد التركية على حدود الأناضول، ولعل هذا هو ما دفع العثمانيين للاستماتة لإسقاط الدولة السعودية الأولى التي وقفت أمام الطموحات العثمانية المحمولة فوق العقائد الفاسدة.