العثمانيون والتصوف
يذكر أكمل الدين إحسان أوغلي أن الحديث والتوثيق لمفهوم الإسلام أو تفسيره عند المحكومين يختلف عن الحاكم، بمعنى أن المحكوم يعتبره أسلوب حياة يُعتقد فيه ويجب أن يُعاش، ولكن النظرة تختلف عند الحاكم وإدارته فهو السياسة التي تتبناها الدولة، ولذلك يُعلل لهذا المفهوم وما كانت عليه الدولة العثمانية.
ويسمي ذلك بـ “التاريخ الديني العثماني”، وهذا أمر غريب!
لقد طرح في الدراسة التي تقدم بها عن الدولة العثمانية والإسلام أنواعًا:
1- إسلام الدولة الرسمي (الإسلام الرسمي).
2- إسلام الأهالي (الإسلام الشعبي).
3- إسلام المدرسة (إسلام الرقي أو الإسلام الفقهي).
4- إسلام التكية (إسلام المتصوفة).
قامت الدولة العثمانية على مبادئ الصوفية، فهل للصوفية دور في نشر الإسلام؟
ذلك تساؤل طُرح من مختصين وغيرهم، واعتبر بعض منهم أن الصوفية جزء من الإسلام واعتبر البعض الآخر أنه من أسباب سقوط الدولة تمسكها بالصوفية، ودللوا على ذلك بأنه أعظم انحراف وقع في تاريخ الأمة الإسلامية ظهور الصوفية المنحرفة، كقوة منظمة في المجتمع الإسلامي، تحمل عقائدَ وأفكارًا بطقوس وعبادات بعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قَوِي عود الصوفية المنحرفة واشتدت شوكتها في أواخر العصر العثماني.
وتختلط الصوفية بطرق فلسفية في طقوسها كالبوذية والهندوسية وغيرها، وإذا ما عدنا بالحديث عن إسلام التكية مثلاً أوضح أوغلي تطوره (هرطقي و رشيد)، ويؤكد بأن ذلك يظهر في إسلام الأهالي تماماً، بل الأدهى من ذلك يوضح بأنه انتشر وشكّل العقلية وأسلوب المعيشة الخاص به -على حدّ قوله – بنظرة فلسفية عمّت كافة الرعايا المسلمين في أنحاء الدولة.
وانتشرت الصوفية في المجتمع العباسي، ولكنها كانت ركنًا منعزلاً عن المجتمع، أما في ظل الدولة العثمانية، وفي تركيا بالذات، فقد صارت هي المجتمع وصارت هي الدين، وانتشرت – في القرنين الأخيرين بصفة خاصة- تلك المقولة العجيبة: من لا شيخ له فشيخه الشيطان! وأصبحت – بالنسبة للعامة – هي مدخلهم إلى الدين، وهي مجال ممارستهم للدين.
ويحرك التساؤلات للقارئ أكمل الدين أوغلي بطرحه حين يعرض تفسير إسلام التكية بأنه واصل الفكر الصوفي لم يوثق صلته بالسلطة المركزية مثلما وثقت تواصلها الطرق الأخرى كالطرق المولوية والخلوتية والجلوتية وكذلك النقشبندية.
لقد شكل إسلام التكية العثماني، طرز إسلام موازٍ، كان لها أوساطٌ قريبة من السلطة المركزية، ويؤكد أوغلي بأنها متمسكة بمذهب أهل السنة، وأنه حتى القرن الثامن عشر أصبح إسلام التكية العثماني له تشكيل وتنظيم جيد.
قد يكون ما سبق توضيحه وذكره حديثًا فلسفيًّا، ولكن لأن ذلك الموضوع والطرح يحتاج إلى الكثير من الوعي لِفهم مدى تغلغل الصوفية فيما وصفه أوغلي بإسلام التكية العثماني. والتكية حسبما اُتفق على تبيان حقيقتها تعني مكان استُعمل ملجأً للدراويش أي المريدين. وفي الأساس، أُنشئت التكايا من قبل العثمانيين لرعاية من لا عائل لهم، والذين لا يقدرون على الكسب، والعجزة، وكبار السن العاجزين، والأرامل من النساء اللائي لا يستطعن ضرباً في الأرض، إلى جانب الفقراء والغرباء وعابري السبيل الذين لا يجدون لهم مأوى في البلاد التي يمرون بها وعند انتشار الصوفية أصبحت بعض التكايا المكان الذي يقيم فيه الدراويش، ويقضون أوقاتهم في العبادة وأداء طقوسهم، وفي الذِكر الذي كان كثيرًا ما يصاحِبه الرقص الدائري الصوفي والموسيقى. مع اضمحلال المدارس في العصر العثماني، انتعشت الزوايا والتكايا، وازداد عدد الصوفية والدراويش. وأصبحت ملجأ للفقراء عبر العصور. وبعد الحرب العالمية الأولى، حظر أتاتورك الديانات فهدم الكثير من التكايا، وحول بعضها إلى متاحف وأغلق الباقي.
فإن دلّ ذلك الإغلاق في عهد أتاتورك، فإنما يدل على كثرتها داخل الدولة العثمانية، فكيف هو الحال بباقي الولايات العربية التي كانت ترزح تحت الاحتلال والسيطرة العثمانية.
أخيراً ذكر أحد الباحثين في التاريخ العثماني بأن كثيرًا من سلاطين آل عثمان كانوا يقومون برعاية الصوفية، ويفيضون عليهم من عطفهم، حتى جاء السلطان عبدالحميد إلى السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تُحاك للأمة، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية يبثون دعوتهم في سائر البلاد، فدعا إلى الجامعة الإسلامية والرابطة الدينية، وكانت الصوفية بجميع أصنافها وطرقها تشكل ثقلاً في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية.