الدراما التركية
لـ "الأغبياء" فقط...
و"البالغين" أحيانًا
تخلت الدراما التركية منذ زمنٍ مبكر عن كثير من المحاذير بحسب تصنيفاتها، لذا كانت تجربتها طويلة وذات أثر في المحيط الداخلي بين الأتراك تحديدًا، الأمر الذي جعل منها مهمةً بدرجة كبيرة بالنسبة لصناع القرار التركي، لقدرتها على توجيه الرأي العام، لذلك كانت منعطفاتها متوائمة مع المشروع السياسي، سواءً في المراحل المبكرة في دعم القومية التركية وتأصيل المنطلقات العامة التي رسمتها السياسة، أو التقلبات الحزبية بحسب تداولها وتحولاتها.
صعدوا بكذبة "أرطغرل" وسقطوا بـ "عثمان".
"عبدالحميد الثاني": لم ينجح أحد.
مؤلف "ممالك النار" يكتب لـ "حبر أبيض":
على "العرب" أن يفسحوا المجال
لصنَّاع الدراما التاريخية
مقاومتنا للدراما التركية لم تزل سلبية... وعمل واحد لا يكفي لمواجهة غزوها الممنهج.
آفات صناعة الدراما لا زالت تسكن جذور أعمالنا كعفن مزمن، المهم هو النجم، هو الذي تشتريه القناة وهو الذي تأتي الإعلانات باسمه، ومن ثَمَّ ينفتح المجال لكي يتدخل النجم ويسيطر، ويصبح كل فريق العمل تروسًا في ماكينة صناعة اسمه ونجوميته، أحلامه أوامر وطلباته مجابة، فالبيع قد تم بمجرد توقيعه على العقد، وبصورة يأخذها المنتج بصحبته لتنتشر على السوشيال ميديا، أما صناعة المسلسل نفسه فمجرد تحصيل حاصل. كيف لنا بالله علينا أن نصنع دراما تنافس على مستوى عالمي – أو حتى إقليمي – في ظل نظام العربة المقلوبة هذا؟!
لا تنقصنا الكوادر من كتابة وتمثيل وإخراج وديكور وتصوير وموسيقى وخلافه، تنقصنا المنظومة، وكلما تحدثنا أغضبنا القائمين على الصناعة (أو التجارة بمعنى أدق) الذين اعتادوا على العمل وجنى الأرباح بهذه الطريقة، غير عابئين بأن النتيجة النهائية ستكون كسادًا كبيرًا، وتوقف حتمي لعجلة الإنتاج الدرامي آجلاً أم عاجلاً.
إن أي تجارة لا تُربح فاشلة بكل المقاييس، ولا أحد يطالب العاملين في هذا القطاع بالخسارة. إن الفن مسألة جدليَّة ليس مكانها صناعة الدراما الهادفة للربح، إلا في هوامش ربما تحتمل المغامرة إن كانت المنظومة تربح في الأصل، ومن منطلق الحديث عن الربح والخسارة من منظور اقتصادي بحت (بزنس)، نرى اليوم أن الدراما التركية عادت تحتل شاشاتنا، بعد تعريبها بممثلين وكوادر عربية، لا بمجرد دبلجتها كما كان يحدث قديمًا، ونرى المسلسلات التركية تحتل منصات عربية تتابع الجديد منها ومعدلات مشاهدتها في تركيا وصعودها وهبوطها، ويقبل عليها المشاهدون في منطقتنا العربية إقبالاً عظيمًا.
وكأننا لم نفعل شيئًا، فالسوق العالمي سيظل خاضعًا لقانون العرض والطلب، والمنصات العالمية الشهيرة تعرض أعمالاً أصلية مصنوعة في تركيا تثير لدينا الكثير من الشجون والأسئلة فيما يخص آليات الصناعة المعطلة عندنا، إن البزنس في البداية والنهاية هو الطريق المضمون للغزو الفكري والثقافي والسياسي.
قلناها مرارًا وتكرارًا وها نحن نعيدها، صناعة مسلسل تاريخي واحد وحيد ليس أمرًا كافيًا في مواجهة سيل الأعمال التركية المشابهة، وعلى المنطقة العربية أن تنتفض وتعطي للصناع المجال لكي يعيدوا قراءة التاريخ للمشاهدين على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، هذا إن كنا نطمح للمنافسة، ولمد خطوط الأمن القومي والثقافي حول مجتمعاتنا أمام غزو درامي مستمر، لعلنا ننجو.
التفاوت الزمني بين صورتين نمطيتين للتاريخ العثماني
غُيِّبت
الدراما العربية بحضور "التركية"
دخلت الدراما التركية صراعًا مُحتدمًا مع الدراما العربية خلال فترة زمنية محدودة مؤخرًا؛ إذ نشطت التركية في فترة ما بعد عام 2000 بغزوها للتلفزيون العربي بأعمالها المُدبلجة، التي عملت على تكريس صورة نمطية تتوافق مع التوجه السياسي، بينما بدأت الدراما العربية المصرية منذ فترة مبكرة في إظهار الصورة النمطية الحقيقية للعثمانيين الأتراك من خلال مجموعة أعمال درامية، لكن الأعمال العربية سبقت بعقود تقريبًا، ما جعلها بعيدةً عن ذهنية المشاهد العربي في ظل الحضور الدرامي التركي.
يقول الناقد الفني المصري رامي المتولي عن ذلك: “مع بداية عصر الفضائيات والانفتاح على الثقافات المختلفة تغيرت تفضيلات مشاهدي ومتابعي الدراما التليفزيونية، فمن الدراما المكسيكية للإسبانية ثم التركية والهندية، لكن التأثير الأكبر كان للتركية المدبلجة للعربية، التي لاقت انتشارًا ورواجًا كبيرين في البداية كدراما اجتماعية رومانسية ثم لمسلسلات تاريخية وسياسية أبرزها “وادى الذئاب” بأجزائه، والذي يمجد الأجهزة الأمنية والمخابراتية التركية، كذلك رؤوس الجريمة المنظمة الذين يشكلون قوى رئيسة في المعادلة التركية”، ويؤكد أن الدراما التركية تحولت إلى بوق دعائي للرئيس التركي الحالي أردوغان، وأطماعه في موارد المنطقة العربية، ومحاكاة أحلامه بعودة الخلافة الإسلامية المزعومة للأتراك.
الناقد المصري رامي المتولي: "ممالك النار" فضح المذابح العثمانية ضد العرب.
ويذهب المتولي إلى أن الدراما والمسلسلات التركية باتت ذراعًا أساسيًا للنظام التركي، الذي يسعى إلى تمجيد المؤسسين الأوائل للدولة العثمانية سواء أرطغرل أو سليم الأول، ومنحهم صفات أسطورية، كذلك الحال مع آخر سلاطين الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني، ويذكر أن “كل هذه المسلسلات صَنعت على الشاشة ملائكة وبشر يتصفون بصفات إنسانية ويقيمون العدل ولا يعتدون بل يدافعون، وهى أمور لا تمت للواقع بصلة، في النهاية هم قوات احتلال ولقب خليفة المسلمين وأمير المؤمنين هو بدوره لقب مغتصب حازه السفاح سليم الأول بعد احتلاله مصر وتنازل الخليفة العباسي الذي كان يعيش في مصر بمنصب صوري عن اللقب”.
في جانب آخر كانت الدراما العربية تتعامل مع ما هو عثماني وتركي بالكثير من الازدراء، فالشخصيات التركية والعثمانية في المسلسلات العربية، هي في الغالب شخصيات سلبية ذات سلوك قاسٍ وعنيف وظالم، لذا يشير الناقد رامي المتولي إلى أنه “عادة ما يتم تصويره كشخص غليظ يسير بالكرباج، لغته ركيكة ونطقه للعربية مضحك، فصورة التركي في الدراما العربية صورة نمطية تعبر عن الشر والظلم، لذا أصبح اللقب التركي “باشا” سيِّئ السمعة ودلالة على الفساد”.
تقادم الأعمال الدرامية فتح المجال لـ "التركية" إلى تكريس صورتها في الذهنية العربية.
ويتتبع المتولي ما تم طرحه من صورة نمطية للأتراك في الدراما المصرية “فترة التسعينيات شهدت الدراما التليفزيونية تصويرًا واضحًا للدولة العثمانية كمحتلة، والسبب في تجريف القاهرة كمثال قتلاً وتعذيبًا وسرقة لمواردها وطاقاتها البشرية، ومسلسل “أرابيسك” عام (1994م) ظهر في حلقته الأولى فنان الأرابيسك حسن النعمانى الجد الذي صنع للسلطان العثمانى كرسي عرشه تحفةً فنيةً، و”حسن” واحد من الحرفيين المهرة الذين ساقتهم قوات بنى عثمان إلى العاصمة الآستانة ليعملوا حرفيين هناك تاركين القاهرة بدون عُمَّالها المهرة وشيوخ حرفييها، وهي إدانة واضحة من السيناريست أسامة أنور عكاشة للمحتل العثمانى، وعام (1995م) عُرض مسلسل “الزيني بركات” الذى تناول الفترة التي سبقت الاحتلال العثمانى وأظهر السيناريست “محمد السيد عيد” عن رواية جمال الغيطانى التي تحمل نفس العنوان، الخيانة التي أوصلت العثمانيين لاحتلال مصر وظهر السلطان طومان باي (رياض الخولى) باعتباره بطلاً قوميًّا قاد الجيش لمقاومة الاحتلال لكن خيانة كثيرين منهم “الزيني بركات” (أحمد بدير) قد مهدت لدخول العثمانيين على حساب المقاومة”.
وختم رامي “لكن درة التاج في فضح العثمانيين ومذابحهم وأياديهم السوداء على المنطقة ومصر كانت من خلال مسلسل “ممالك النار” الذي عُرض عام (2019م)، والذى ركز على دموية واحتلال سليم الأول وأكاذيبه ومحاولات صبغ احتلاله لمصر والشام بأنه فتحٌ إسلاميٌ، من خلال عرضٍ متوازٍ لصعود سليم وطومان باي للحكم وطريق كلٍ منهما في الوصول إلى العرش وطبائع كل منهما الشخصية، استنادًا على الكثير من الكتب التاريخية، لذلك يبدو بوضوح ما فعلته الدولة العثمانية من خلال المسلسل، وما أقدمت عليه لتدمير مصر ودفعها لعصور من الجهل والرجعية، وأعملت السيف في الجميع وفرضت ضرائب وجزية ولم تهتم بأي تطوير استنادًا على ضعف ظاهره قوة حكامها بالمؤامرات وانشغالهم، على حساب اهتمامهم بالبلاد التي احتلوها”.