الدراما التركية:
قوة ناعمة للاستراتيجية الأردوغانية
السياق التاريخي لبداية اختراق الدراما التركية:
إن التركيز على الدراما، كأحد أذرع الاستراتيجية التركية لخدمة مشروعات “الخلافة”، لم يظهر إلا مع اعتلاء أردوغان منصب رئيس وزراء تركيا سنة (2003)، خصوصًا بعدما أدارت أوروبا ظهرها لطلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي ليتحول أردوغان إلى رجل الغرب في المنطقة وأحد أدوات تطبيق مشروعات الشرق الأوسط الجديد، وهو ما تطلب تغييرًا جذريًّا في البنية السلوكية للمواطن العربي من خلال عملية الاستلاب الفكري والحضاري والهوياتي كمقدمة لتطبيق الواقع الإقليمي الجديد.
في هذا السياق، تعتبر سنة (2007) بمثابة الانطلاقة الحقيقية لاستباحة الشاشات العربية بالإنتاجات الدرامية التركية بعد أول مسلسل تركي بعنوان “إكليل الورد”، الذي قامت بعرضه مدبلجًا قناة MBC على شاشتها، حيث أسال نجاح هذا المسلسل لعاب الكثير من المنتجين الذين أغرقوا الفضائيات العربية بالإنتاجات الدرامية التركية، رغبة في الربح المادي من وراء حقوق البث والوصلات الإشهارية لتنطلق “القوة الناعمة” التركية في تنزيل الأجندات الأردوغانية في المنطقة العربية، ويبدأ مسلسل الانحطاط الأخلاقي وانحدار الذوق العام للمشاهد العربي الذي وقف عاجزًا أمام عملية الاستلاب التي تقوم بها الدراما التركية التي استهدفت الفرد والأسرة والمجتمع على السواء.
الأبعاد الاستراتيجية للتحليل:
ومن أجل تحديد مستويات التحليل في علاقتنا مع تناول دور الدراما التركية في خدمة الهدف السياسي الأبرز للعثمانيين الجدد، يجب أن نُمَوْقِعَ الأداة الإعلامية الدرامية ضمن مستويات السياسة التركية في توجهها الأردوغاني الجديد.
من هذا المنطلق، فإن تحديد الهدف السياسي الأكبر للدولة التركية فرض على صانع القرار التركي تحريك مجموعة من القطاعات التي تشتغل بالتوازي وبشكل متكامل لخدمة هذا الهدف (الدبلوماسية، الاقتصاد، الإعلام، السياسة الدينية، الاستراتيجية العسكرية، الفن والثقافة…) وهو ما يطلق عليه مستوى “الاستراتيجية الكبرى” بتعبير المنظر الاستراتيجي البريطاني بازل ليدل هارت أو “الاستراتيجية المطلقة” بتعبير الاستراتيجي الفرنسي أندري بوفر، ثم يأتي مستوى الاستراتيجية أي المواجهة المباشرة التي يتم تصريفها وتنزيلها على مستوى مسارح العمليات (العراق، سوريا، ليبيا، الصومال…) ثم مستوى التكتيك وهو تدبير المعارك بشكل منعزل خدمة لأهداف محددة.
ويمكن القول بأن الاستراتيجية التركية على عهد “العثمانيين الجدد” عرفت تغيرًا راديكاليًّا بعد أن كان الاستعمار العثماني يعمل على محاولة إخضاع المناطق العربية عن طريق محاولة “تتريك” هذه الدول من خلال تغيير المناهج والقواميس وحتى ترحيل المواطنين الأصليين واستبدالهم بمستوطنين أتراك (حادثة سفر برلك وغيرها)، ليُغير حكام أنقرة سلوكهم نحو تبني استراتيجية جديدة تروم بالأساس “تعريب” الأجندة التركية وترويجها إعلاميًّا لدخول البيوت العربية بشكل أكثر سلاسة والعمل على “تتريك” العرب حضاريًّا وإيديولوجيًّا وعرقيًّا (وليس بالضرورة لغويًّا) مستغلين في ذلك تواطؤ تنظيمات الإسلام السياسي التي ترى في إسطنبول عاصمة تاريخية للخلافة الإسلامية بعدما كانت مصر، إلى وقت قريب، حاضنتها الروحية والتنظيمية.
الدراما التركية: أهداف الاستعمار وسياقات الانتشار
لقد استفادت الدراما التركية من مرحلة الفراغ التي عاشتها الدراما العربية في ظل ضعف الإنتاج العربي الذي ظل يعتمد اعتمادًا شبه كلي على المسلسلات المصرية والسورية وبشكل أقل على الدراما الخليجية، بالإضافة إلى خفوت إشعاع المسلسلات المكسيكية التي اكتسحت الشاشات العربية في حقبة التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي.
أمام هذا الفراغ، الذي تزامن مع كثرة القنوات الفضائية، استغلت تركيا الفرصة لإغراق الشاشات العربية بالإنتاجات الدرامية المدبلجة، التي أرادت أنقرة من خلالها تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية وعلى رأسها:
– المساهمة في الترويج للسياحة التركية عن طريق الذكاء في اختيار المشاهد وأماكن التصوير بشكل أسال لعاب الكثيرين لزيارة تركيا وهو ما نجم عنه استفادة أنقرة من ملايين السياح الذين ساهموا في تمويل الخزينة التركية بالعملة الصعبة.
– محاولة تلميع التاريخ العثماني الأسود، الذي شكلت حقبته فجوة في تاريخ الحضارة الإسلامية من خلال ما تسبب فيه هذا الاستعمار الغاشم من جمود فكري وحضاري انضافت إليه المجازر التي ارتكبها الأتراك العثمانيون في المنطقة العربية التي أخضعوها بمنطق الحديد والنار.
– تقديم الشخصية التركية بمنظر مثالي وتجسيد جمالي جعل بعض المغرر بهم يؤمنون بالاستثناء التركي حتى وصل الأمر إلى تضخيم بعض الشخصيات التاريخية الحقيقية أو الأسطورية وهو ما جعل المتلقي العربي يسقط فريسة البروباغندا التركية التي قدمت نفسها شرطيًّا للمنطقة وممثلاً شرعيًّا للعالم الإسلامي السني.
– محاولة هدم أسس هوية الحضارة العربية الإسلامية وذلك عن طريق تمييع الذوق العام وهدم مؤسسة الأسرة، وكلها مقدمات لبناء حضارة تركية على أنقاض الشخصية الرئيسة للمجتمع العربي المسلم. ولتحقيق هذا الغرض روَّجت الدراما التركية إلى شرعنة العلاقات الجنسية الرضائية خارج مؤسسة الزواج والترويج لقضايا الإجهاض والانحلال الأخلاقي وزنا المحارم وهو ما ساهم في إحداث شرخ عميق ساهم في تفسخ العلاقات الأسرية والضرب في الحياء العام وإرساء مظاهر إسلام صوري يتقاطع مع أصالة البنية السلوكية المحافظة للمجتمعات العربية والإسلامية.