"الأندلس في الإستراتيجية العثمانية"
في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تضرب في عمق الأراضي الأوربية بغزواتها العسكرية المتنوعة، كان موقف الدولة العثمانية من الوضع المأساوي الذي كانت تمر به الأندلس بعيدًا عن استراتيجيتها السياسية والعسكرية، فاستغاثة أهل الأندلس تكررت كثيرًا على أبواب السلاطين العثمانيين بدءًا من عهد السلطان بايزيد الثاني وحتى عهد السلطان سليمان القانوني، إلا أن الموقف العثماني كان بعيدًا كل البعد عن تطلعات أهل الأندلس خاصة في الفترة التي شهدت أهم وأخطر الأحداث والتطورات في المسألة الأندلسية قبيل سقوط الأندلس وتحديدًا غرناطة آخر الممالك العربية الإسلامية، وما تلاها من فظائع وجرائم و انتهكت فيها حقوق الإنسان، فالمصادر التاريخية لم تشر إلى رد فعل قوي قام به السلاطين العثمانيون استجابة لاستغاثة أهل الأندلس، الذين توجهت أنظارهم نحو الدولة العثمانية بصفتها القوة الإسلامية الثانية بعد سلطنة المماليك في مصر، فأرسلوا عددًا من رسائل الاستغاثة إلى السلطان العثماني؛ فالدولة تعيش ذروة قوتها ونفوذها -آنذاك- على المستويين السياسي والعسكري، ومع هذا لم يجد الأندلسيون أي ردة فعل إيجابية منها.
بايزيد الثاني محب العلم والسلام:
في سنة 891ه/1486م، أرسل ملك غرناطة أبو عبد الله الصغير وفدًا إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني، حاملاً رسالة تشرح أوضاع غرناطة وظروف أهلها، وتعبر عن الأمل بالحصول على مساندة السلطان العثماني ودعمه، خاصة بعدما تعرضت له من شتى صنوف المحن والاضطهاد، وإلى أن سقطت غرناطة لم ينقطع رجاء أهلها بتلقي المساعدة العاجلة، وإلا فسيكون مصيرهم المحتوم إما إلى التنصير أو التهجير أو التحويل إلى محاكم التفتيش، فقد تعرض أهل الأندلس للاضطهاد من الصراع العقائدي، الذي استهدف القضاء على دينهم ولغتهم ومحوها من إسبانيا، ولكن يبدو أن السلطان العثماني بايزيد الثاني، الذي يصفه أحد المؤرخين بأنه كان ميَّالاً إلى العلوم والسلام، لم يكترث لتلك الآلام والمحن التي مر بها أهل الأندلس. ومع ذلك أرسل ملك غرناطة برسالة استنجاد مرة أخرى إلى السلطان في سنة 892ه/1487م، حملها له الوفد الغرناطي الثاني، يطالبه فيها بالنجدة وبتوقيف الحملة على سلطنة المماليك، ونصرة إخوته المسلمين في الأندلس عوضًا عن ذلك. ولكن يبدو أن السلطان المحب للسلام والعلم كان له رأيٌ آخر واستراتيجية أخرى كانت الأندلس خارج إطارها. فما كان من السلطان بايزيد الثاني سوى إرسال مجموعة سفن محدودة العدد تحت قيادة كمال ريس باشا، ولم تكفِ للنجدة التي كان يتوقعها ملك غرناطة عندما فكر في الاستنجاد بالدولة العثمانية. فقد كانت خطة الملك الغرناطي الأخير، تهدف إلى نزول الأسطول العثماني بشواطئ بلنسية شرق الأندلس، ثم ينضم إليه الآلاف من الموريسكيين، وتبدأ من هناك عمليات القتال العثمانية الأندلسية المشتركة ضد مملكة قشتالة. غير أن كل تلك الآمال ذهبت أدراج الرياح، عندما علم أبو عبد الله الصغير بمحدودية عدد سفن كمال ريس، وكانت العمليات العسكرية التي قامت بها تلك السفن في الفترة من العام 1487م حتى العام 1492م، عبارة عن مجموعة غارات محدودة على السواحل المسيحية للأندلس، لم تكن كفيلة بردع فرناندو الذي أيقن بعد عدم وصول نجدات كبيرة من الشرق بأن الوقت حان للهجوم الأخير على غرناطة، لتسقط في يده ويدخلها في موكب النصر في 2 يناير من سنة 1492م، وينتهي بذلك الحكم العربي في الأندلس، ويبدأ فصلٌ آخر من معاناة المسلمين هناك، بعد أن خيروا بين التنصير أو الرحيل عن الوطن، لقد كان خذلان العثمانيين صادمًا لأهل الأندلس إلى آخر ملوكها فلم يبرحوا إلا أن استجابوا إلى قدرهم المحتوم. لقد عاين كمال ريس هزيمة الغرناطيين بنفسه، ولم يحرك ساكنًا بما أن سفنه ورجاله كانوا أقل من أن يحدثوا الفارق. وكلٌّ ما كان قادرًا عليه هو المشاركة في نقل مجموعات كبيرة من المسلمين الذين قرروا الخروج من الأندلس إلى المغرب والجزائر وتونس. ثم وصلته رسالة من السلطان بايزيد الثاني تأمره بالعودة فورًا إلى إستنبول، بما أن غرناطة قد سقطت، وكأن الأسطول العثماني جاء ليشاهد إسدال الستار في نهاية المسرحية المأسوية لأهل الأندلس. يقول المؤرخ التركي “يلمز ازنتونا” في معرض تعليقه على سقوط آخر المعاقل العربية: “أغضب هذا الظلم التعسفي الأتراك، فقررت الدولة العثمانية التدخل في المغرب” بهذا المنطق والتفكير كانت الاستراتيجية التي طمح إليها السلطان العثماني بايزيد الثاني وخلفاؤه من بعده من بسط النفوذ والسيطرة على شمال إفريقيا مستغلين الأوضاع السياسة العصيبة التي مرت بها الأندلس. ومن المفارقات العجيبة أيضا أن السلطان العثماني سليمان القانوني كان قد جرد أسطولا بحريًّا كاملاً لحماية الشواطئ الفرنسية من الاعتداءات الإيطالية تنفيذًا لمعاهدة سنة 1535م، فشن هجوما على نابولي وغيرها من مدن الجنوب الإيطالي لصالح العلاقات العثمانية الفرنسية!!