بعد هزيمة روسيا المذ َّلة واستقلال الولايات الأوروبية
تاجر بحجاج بيت الله لإنعاش روح
"الرجل المريض"
شكل مشروع إنجاز سكة حديد الحجاز حدثًا مهمًّا بالنسبة للدولة العثمانية وباقي الأقاليم التي احتلتها، وصلت إلى حد وصفه من طرف البعض بالفتح الإسلامي الجديد، في ظل “البروباغندا” العثمانية التي روجت لهذا المشروع على أنه استجابة لحاجة ملحة للحجاج المسلمين الذين كانوا يعانون خلال موسم الحج من جراء بُعد الشُقة وطول المسير، وأيضًا التحرشات التي كان يقوم بها بعض قطاع الطرق الذين كانوا يستهدفون قوافل الحجاج المتوجهين نحو الحجاز.
تاريخيًا، بدأ اهتمام الدولة العثمانية بإنشاء خط حديد الحجاز منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين قام المهندس الأمريكي زيمبل سنة (1864م) بتقديم أول مخطط للمشروع يتعلق بإنشاء الخط الحديدي الذي يمتد من مدينة إسطنبول إلى المدينة المنورة، غير أن تكلفة المشروع المرتفعة دفعت السلطنة إلى التراجع عن تنفيذه على أرض الواقع.
ومع تولي السلطان عبدالحميد الثاني مقاليد الحكم سنة (1876م)، حاول إعادة الروح إلى الدولة العثمانية التي بدأت عمليًّا مرحلة الانهيار بعد الهزائم المتكررة على الجبهة الغربية ولعل أهمها الهزيمة الساحقة التي تلقتها على أيدي روسيا القيصرية المتحالفة مع دول البلقان. وهذه الأخيرة سعت إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية بعدما أُنهكت بالضرائب التي فرضها آل عثمان لمواجهة آثار الجفاف الذي ضرب منطقة الأناضول، قلب السلطنة العثمانية، الذي نجمت عنه مجاعة عامي (1873-1874م).
أمام هذه الضربات والانتكاسات المتكررة التي تلقاها العثمانيون شرق أوروبا وتصاعد المطالب القومية بالاستقلال، حاول عبدالحميد الثاني التركيز والمحافظة على العمق الإسلامي للدولة العثمانية من خلال إعادة الحشد لمؤسسة الخلافة الإسلامية، وهو ما فرض عليه التفكير في ضرورة استمرار إخضاع الحجاز والقدس لسلطانه على اعتبار أن المشاعر المقدسة تبقى لها رمزية دينية قوية باعتبارها مركز ثقل العالم الإسلامي وأي نجاح للمطالب الاستقلالية في هذه المناطق يعني عمليًّا ضياع أحلام الإمبراطورية العثمانية وفقدانها لذلك الزخم الديني الذي توفره لها منطقة ذات عمق ديني كالحرمين الشريفين.
من هذا المنطلق، عمل عبدالحميد الثاني على إعادة إحياء مشروع سكة حديد الحجاز وتنفيذه في محاولة منه لمنع -أو على الأقل تأخير- سرعة انهيار إمبراطورية “الرجل المريض”، بالإضافة إلى تفادي العزلة التي أصبحت تعانيها الدولة العثمانية وهو ما دفعها إلى التفكير في آلية تضمن لها التدخل السريع والوصول إلى المناطق التي تعرف نشاطًا استقلاليًّا ضد الاحتلال العثماني خصوصًا في الجزيرة العربية.
إحياء مشروع سكة حديد الحجاز لمنع انهيار إمبراطورية "الرجل المريض".
في هذا السياق، وبالرغم من أن عبدالحميد الثاني حاول الترويج لهذا المشروع على أنه نابع من واجباته الدينية تجاه المسلمين باعتباره “أميرًا للمؤمنين” ويهدف إلى تذليل المصاعب أمام حجاج بين الله الحرام، إلا أن الإكراهات السياسية والعسكرية كانت هي الدافع الحقيقي وراء إنجاز هذا الخط، بينما ظل الاعتبار الديني جزئية فرعية الهدف منها ضمان جمع التبرعات لإتمام هذا المشروع الذي تم تمويله حصريًّا بأموال المسلمين الذين تسارعوا للمساهمة في هذا المشروع الذي اعتقد البعض أنه يدخل في باب الجهاد بالمال. هذا المعطى يؤكده متين هولاكو في الكتاب المشار إليه أعلاه حيث يؤكد -ضمنيًّا- بأن المعطى الديني كان محددًا ثانويًّا في قرار الدولة العثمانية بإنجاز خط السكك الحديدية بقوله: “لا شك أن الدافع الرئيس الكامن وراء إنشاء خط حديد الحجاز هو الطموح السياسي والعسكري، بالإضافة إلى الدافع الديني أيضا”.
قام بترويج مشروع القطار على أنه نابع من واجباته الدينية تجاه المسلمين.
وفي الاتجاه نفسه، ذهب المؤرخ البريطاني شارل سوالاو (Charles Swallow) صاحب كتاب “رجل أوروبا المريض”: من الإمبراطورية العثمانية إلى التركية (1857-1923م)” حيث يقول: “أصبح مشروع سكك حديد الحجاز الذي يربط الشام والمدينة ومكة بعضها ببعض من أهم المشروعات المهمة التي حمل السلطان عبء تنفيذها على عاتقه بعد فراغه من مشروع سكك حديد بغداد، وقد اضطلع هذا المشروع بدور حيوي في تحقيق خطط عبدالحميد وتنفيذ أهداف سياسة الوحدة الإسلامية التي كان بصدد القيام بها”.
ويبدو أن فكرة إنجاز المشروع كانت في الأصل فكرة سياسية محضة، ولا علاقة لها باهتمام آل عثمان بحجاج بيت الله الحرام. وهذا المعطى أكدته نداءات الوالي العثماني في الحجاز عثمان نوري باشا الذي دعا إلى تجديد وإعادة إحياء فكرة هذا المشروع سنة (1892م)؛ وذلك لأسباب عسكرية. ويبقى الثابت أن السلطان عبدالحميد الثاني استغل مشاعر المسلمين لدفعهم إلى تمويل مشروع هدفه الحقيقي يبقى بعيدًا عن الدوافع الدينية وهو ما تحقق له، حيث تجمع الكتابات أن التمويل كان معظمه من جيوب المسلمين، وهنا نجد متين هولاكو يقول: “لا شك أن خط حديد الحجاز هو من أهم المبادرات الدينية والسياسية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وقد تم إنشاؤه كليًّا برؤوس أموال المسلمين وتبرعاتهم المادية والمعنوية”.
أما من الناحية الاستراتيجية، فقد عانى الاستعمار التركي من مشاكل التركيز الأمني والحشد العسكري على أطراف السلطنة في ظل النزعات الاستقلالية المتزايدة وهو ما دفع بالدولة العثمانية إلى تبني استراتيجية حربية تساعدها على التدخل في مختلف المناطق الخاضعة لسلطنتها وفق النهج الاستراتيجي الذي يصطلح عليه بـ “المناورة على الخطوط الداخلية” وهو نوع من الاستراتيجيات التي اشتهر بها المنظّر السويسري أنطوان هنري دي جوميني، حيث تضمن هذه الاستراتيجية حرية المناورة والتنقل على الخطوط الداخلية وتفادي تركيز وتثبيت الجيوش في مناطق متفرقة، ومن ثم عدم إنهاك الدولة بنفقات كثيرة على رواتب الجنود والعتاد والتموين، مع سهولة نقلها إلى المناطق الخاضعة للدولة العثمانية عن طريق القطار الذي ظل الوسيلة المفضلة لنقل الجنود في تلك الفترة.
إن الإكراه الذي كان حاسمًا -في اعتقادنا- من وراء إطلاق مشروع سكة حديد الحجاز هو تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في سرعة الوصول إلى المناطق العربية الخاضعة للاحتلال العثماني خصوصًا أن مجموعة من القوى الكبرى كانت تبحث لها عن موطئ قدم في المنطقة العربية في ظل الاكتشافات المتتالية للنفط، حيث استغلت مشاعر العداء العربي للمشروع الاستعماري العثماني لبناء تحالفات ساهمت بالإسراع في إسقاط الهيمنة العثمانية وظهور مجموعة من الدول على الخارطة الجديدة للمنطقة.
1. متين هولاكو، الخط الحديدي الحجازي: المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد الثاني (القاهرة: دار النيل، 2011م).
2. شارل شالاو “الرجل المريض للإمبراطورية العثمانية الأوروبية حتى الجمهورية التركية 1857-1923″، لندن 1973م.
3. سليمان قوجه باش وعبد الله أحمد إبراهيم “السلطان عبد الحميد الثاني: شخصيته وسياسته”، ترجمة عبد الله أحمد إبراهيم، منشورات المركز القومي للترجمة، إسطنبول 1995م.