تاريخ من العداء والدماء

أشهر الإمارات الكردية التي قاومت الاحتلال العثماني

تاريخ الأكراد في ظل الدولة العثمانية تاريخ مليء بالمآسي، لذا ورثت الجمهورية التركية عبء هذا التاريخ، في الوقت الذي لم ينس فيه الأكراد وقائعه ذوات المآسي.

وأكثر مأساة عانى منها الأكراد؛ أنهم شعروا بأن أراضيهم تمثل إمارات حدود فاصلة بين قوتين عثمانية وصفوية تنازعتا أراضيهم، وكانوا وقودًا لهما. وأصبحت الأراضي الكردية منطقة عبور والتقاء بين جيوش الصفويين والعثمانيين، وكم كانت كردستان مسرحًا لمعارك عديدة بينهما، تكبدت خلالها كردستان الخسائر الجمة على المستويين البشري والاقتصادي.

تلقت كردستان ضربات اقتصادية وبشرية؛ نظرًا لموقعها الجغرافي، ووقوعها بين قوتين متجبرتين.

ومع مرور الزمان وتبدل الأحوال لم يحترم السلاطين العثمانيون حالة الاستقلال الذاتي التي تمتعت بها الإمارات الكردية؛ إذ بدأ الصدام بين العثمانيين والكُرد منذ عصر مراد الرابع. وانتهكت الجيوش العثمانية الوضع الخاص لهذه الإمارات، وهنا نرى الكثير من التضارب في الآراء حول هذا الأمر بين المصادر الكردية والمصادر العثمانية؛ إذ نظرت المصادر الكردية إلى ذلك على أنه بمنزلة مذبحة للكُرد، بينما وصفت المصادر العثمانية ذلك الأمر على أنه كان بمنزلة حملات تأديبية للأمراء الكُرد، وإخضاع كل الولايات إلى سلطة الدولة المركزية. ويزداد الأمر سوءًا في القرن التاسع عشر مع ضعف الدولة العثمانية، وأزماتها الاقتصادية، وهزائمها في حروبها الخارجية، وسقوط بعض ولاياتها في أيدي أعدائها، من هنا تتخلى الدولة العثمانية عن سياسة اللامركزية التي اتسمت بها الإدارة العثمانية لفتراتٍ طويلة، وتتبنى الدولة سياسة المركزية، مما يعني الصدام المباشر مع رعاياها. يُضاف إلى ذلك أن هذا القرن كان يعد عصر القوميات، من هنا حدث الصدام الكبير بين القومية التركية والقومية الكردية، مثلما حدث من صدام بين القومية التركية والقوميات الأخرى الأرمينية والعربية ومن قبلهما اليونانية.

وتشير بعض الدراسات التي أقيمت على وثائق الأرشيف العثماني إلى شكاوى الكُرد من تجاوزات الإدارة العثمانية، ولا سيما أن الكُرد في البداية استمروا في ولائهم للسلطان العثماني، خوفًا من وقوعهم في أيدي الصفويين.

وفي دراسته عن الكُرد والعشائر الكردية في الأرشيف العثماني، يرصد محمد علي أحمد شكاوى أهالي قضاء سروج من تصرفات الجيش العثماني؛ إذ يعرض لوثيقة تعود إلى عام (1845) توضح أن الجيش العثماني أخذ قرارًا بتأديب أهالي سروج لرفضهم إرسال الرجال للمشاركة في الحملة العثمانية على منطقة عربستان.

كما يعرض المؤلف لوثيقة أخرى تعود إلى عام (1898) تتحدث عن العصيان المسلح الذي قام به أهالي سروج وما حولها ضد مفرزة الجندية. كما يرصد المؤلف عمليات التهجير القسري للعشائر الكردية، الذي بدأ منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، واستمر في القرن التاسع عشر. ومن هذه العمليات تهجير عشائر كردية من مناطق سكنها شمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا الحالية إلى أماكن النفي التي حددها الباب العالي. ويعرض المؤلف لوثيقة توضح تهجير الكُرد من منطقة مرعش إلى منطقة الرقة وما حولها.

ولم يقتصر الأمر على عمليات التهجير فحسب، وإنما شمل الصدام بين العثمانيين والكُرد على سقوط الإمارات الكردية التي كانت تتمتع بنوعٍ من الاستقلال الذاتي، وسنعرض لبعض أمثلة على سقوط هذه الإمارات.

إمارة سوران:

يفسر البعض اسم سوران بأنه يعود إلى اسم أحد اللهجات الكردية الرئيسة، وتُسمى اللهجة السورانية. وكانت إمارة سوران من أهم الإمارات الكردية؛ إذ كانت تضم الموصل وكركوك وأربيل. ويقال إن هذه الإمارات كانت تتميز بلونٍ من التسامح والانفتاح إلى درجة السماح أن تحكمها امرأة.

وكما أشرنا من قبل، فقد تخلى العثمانيون عن سياسة اللامركزية، وانتهجوا سياسة المركزية، من هنا تحرك الجيش العثماني إلى إمارة سوران، حيث شن هجومًا شرسًا عليها. ولعبت ماكينة الدعاية العثمانية على وتر الدين، وخاصةً أن أغلبية سكان الإمارة من السُنة؛ إذ استمال العثمانيون بعض العلماء الكُرد إلى جانبهم، وأصدر هؤلاء العلماء فتوى للأهالي الكُرد تُحَرِّم محاربة جيش السلطان، لأنه جيش الخليفة وليّ الأمر. ويقال إن هذه الفتوى لعبت دورًا مهمًّا في هزيمة الإمارة وسقوطها.

إمارة بوتان:

إمارة بوتان من الإمارات الكردية المهمة، وتركزت الإمارة في منطقة جزيرة بوتان في جنوب شرق الأناضول، ومعظم سكانها من المسلمين السُنة. وفي العصر العثماني -كما أشرنا من قبل- أصبحت إمارة بوتان إمارة وراثية تتمتع بالحكم الذاتي مع التبعية للباب العالي.

ويصف قبات الجافي إمارة بوتان بأنها جوهرة الإمارات الكردية، وتتميز إمارة بوتان بطول فترتها التاريخية، كما كانت آخر إمارة كردية تسقط في أيدي العثمانيين، حتى شبهها البعض بإمارة غرناطة× كونها آخر إمارة سقطت في أيدي الإسبان في الأندلس.

إمارة بوتان كانت تطمح لتكرار التجربة الخديوية في مصر.

وتحدثنا المصادر عن أحد أهم أمراء بوتان وهو الأمير بدرخان باشا، هذا الأمير الإصلاحي الذي أُعجِب كثيرًا بتجربة محمد عليّ في مصر، وأراد الاقتداء به والقيام بإصلاحات كبيرة في إمارة بوتان. كما عمل بدرخان على بلورة مشروع سياسي كردي لمستقبل الإمارة، لكن مشروعه هذا اصطدم بسياسة المركزية العثمانية. ومع ذلك استمر بدرخان في مشروعه الإصلاحي متأسيًا بتجربة محمد علي؛ حيث حرص على بناء جيش قوي، وأنشأ في بوتان مصنعًا للذخيرة، كما اهتم بتشجيع التعليم في الإمارة، بل أرسل بعثات من طلابه إلى أوربا.

وحدث الصدام المتوقع بينه وبين السلطان العثماني، عندما رفض أن يشارك في حروب السلطان الخارجية. وهنا وقعت الواقعة بينه وبين جيش السلطان، ولم يستطع الاستمرار في المقاومة، واضطر أخيرًا إلى الاستسلام.

وفي البداية تم إرسال أمير بدرخان أسيرًا إلى إسطنبول، وهناك أمر السلطان بنفيه هو وأسرته إلى جزيرة قبرص. وتفرق شمل آل بدرخان في العديد من الدول، وصل بعضهم إلى مصر ومن نسلهم أحد أشهر المخرجين المصريين “أحمد بدرخان”، وأيضًا ابنه “علي بدرخان”.

فتجبرت الدولة العثمانية على الإمارات الكردية، ونسجت تاريخًا من صراعٍ بين سياسة اللامركزية وسياسة المركزية، هذه السياسة الأخيرة التي لم تنجح في إبقاء الدولة العثمانية، بل ساهمت في صراع القوميات في الدولة العثمانية.

  1. عيسى إبراهيم قاسم: الميران في إمارة بوتان، دراسة تاريخية.
  2. قبات شيخ نواف الجافي: إمارة بوطان.
  3. محمد زكي البرواري: الكورد والدولة العثمانية.
  4. محمد عليّ أحمد: الكرد والعشائر الكردية في الأرشيف العثماني.