سيناريو تاريخي مكرر في المشهد السياسي المعاصر
تحوَّلت اليمن بعد اغتيال سيف بن ذي يزن إلى مستعمرة فارسية فُرضت فيها قوانين كسرى
لعبت منطقة جنوب الجزيرة العربية دورًا مهمًا في التاريخ القديم؛ ومنها “بلاد اليمن السعيد”، الذي قامت فيه العديد من الحضارات والدول مستفيدة من المناخ الجيد، والأمطار وقيام الزراعة على مدرجات الجبال، هذا فضلاً عن التجارة عبر البحر الأحمر، وبحر العرب.
وكانت دولة حمير من أهم الدول في اليمن حتى القرن السادس الميلادي، حيث طمعت الحبشة في ثروات اليمن، وأراد حاكمها السيطرة على اليمن ليتمكن من إحكام قبضته على جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، ليفرض سيطرته على طرق التجارة الدولية الجنوبية، مدعومًا من البيزنطيين.
عبر الأحباش البحر واستطاعوا السيطرة على اليمن، وقضوا على دولة حمير. وتحكي المصادر التاريخية عن وحشية القائد الحبشي أبرهة، وكيف لجأ إلى بناء كنيسة كبرى في صنعاء، ويقال إنه أراد أن تكون هذه الكنيسة هي كعبة العرب بديلاً عن الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.
ويرى بعض المؤرخين أنه كان تحالف دولي بين إمبراطورية الروم الشرقية ومملكة الحبشة من أجل السيطرة على جنوب الجزيرة العربية. ويذكر هؤلاء أن إمبراطور البيزنطيين جستنيان أيَّد الأحباش في حملتهم على اليمن.
يؤكد ذلك أن سيف بن ذي يزن الحميري عندما رفض الخضوع لسيطرة الأحباش على اليمن، التجأ في البداية إلى الروم طالبًا دعمهم لطرد الأحباش من اليمن، لكن الروم رفضوا مساعدة سيف بن ذي يزن، بحجة أن الأحباش نصارى مثلهم، ومن ثم لا يمكن نصرة سيف على الأحباش.
وهكذا اضطر سيف بن ذي يزن إلى اللجوء إلى الفرس طالبًا مساعدتهم في إخراج الأحباش من اليمن، وتَذْكُرُ المصادر تَمَنُّع كسرى فارس عن مساعدة سيف بن ذي يزن في البداية بحجة البُعد الجغرافي لليمن عن فارس، وعدم اهتمام الفرس باليمن، وهو ما يؤكد المناورة الفارسية في الأحداث التالية، فكسرى أعطى سيف بن ذي يزن بعض الأموال وطلب منه الرجوع إلى اليمن. لكن سيف بإباء وشمم العربي رفض ذلك الأمر وقام بنثر الأموال على من كان في قصر كسرى، قائلاً: “إن جبال بلادي ذهبٌ وفضةٌ”.
وتذكر المصادر التاريخية بعد ذلك موافقة كسرى على مساعدة سيف بن ذي يزن، وأنه أمده بالقائد الفارسي وهرز، وكيف سار الجميع في الخليج العربي ليصلوا إلى الجنوب ومنها إلى حضرموت؛ حيث انضم أنصار سيف بن ذي يزن إليهم، ونجح هذا الجمع بالانتصار على الأحباش وطردهم من اليمن في عام (570م).
يرى المؤرخ المصري عبد الوهاب عزام أن الفرس في حقيقة الأمر كانوا يطمحون إلى السيطرة على اليمن في إطار الصراع الدولي بينهم وبين الروم، ومن ثم كانت حملتهم إلى اليمن جزءًا من هذا الصراع لضرب الأحباش حلفاء الروم، وهكذا وقعت بلاد اليمن السعيد تحت حكم الفرس.
"بن ذي يزن" اعترف بخطئه ودفع الثمن أمام عينيه بزوال ملك آبائه لصالح الفرس.
سمح الفرس لسيف بن ذي يزن بحكم بلاد اليمن، ومن ثم عادت الدولة الحميرية من جديد، لكن تزايد التدخل الفارسي في أمور اليمن، حتى أن سيف بن ذي يزن انزعج من هذا الأمر، وحزن إذ كيف يستبدل محتلاًّ بمحتلٍ جديد؟! ويقال إنه أبدى امتعاضه من ذلك، لا سيما مع استقرار الجنود الفرس في اليمن وتزاوجهم مع بنات اليمن؛ حيث نشأت طبقة جديدة من هذه الزيجات تسمى الأبناء.
وسرعان ما تم اغتيال سيف بن ذي يزن على يد أحد حراسه، وقيل إن ذلك كان نتيجة مؤامرة فارسية لإحكام السيطرة تمامًا على بلاد اليمن، ويستدلون على ذلك بأنه من بعد اغتياله زالت دولة العرب ولم تقم لملوك حمير قائمة بعدها، وبالفعل أصبحت اليمن من ذلك الوقت ولاية فارسية يحكمها ولاة فرس، حتى دخول الإسلام إلى اليمن.
وعلى الرغم من اغتيال سيف بن ذي يزن غدرًا، فإن سيرته تحولت إلى واحدةٍ من أهم وأطول السير الشعبية العربية، وتحول سيف بن ذي يزن إلى بطل شعبي، ربما لينسى الناس أنه من أدخل الفرس إلى اليمن. وصنع الخيال العربي منه بطلاً أسطوريًّا، وأنه ملكٌ على الإنس والجن، وأوغلت الأساطير إلى أن أمه كانت من ملكات الجن.
في اللحظات الصعبة من تاريخ الأمم يُستدعى التاريخ لتفسير الحاضر، من هنا يسترجع الكاتب الصحفي فتحي محمود سيرة سيف بن ذي يزن في إطار التدخل الإيراني الحالي في اليمن، واستدعاء الحوثيين للتدخل في الشأن اليمني، قائلاً: “نزل الفرس في حضرموت، وتمكنوا بمساعدة بعض اليمنيين، ومنهم سيف بن ذي يزن، من هزيمة الأحباش وطردهم، ودخلوا منتصرين إلى صنعاء. وبعد فترة وجيزة تواطأ الفرس مع بعض الأحباش وقضوا على سيف بن ذي يزن، وزالت دولة العرب من اليمن، التي تحولت إلى مملكة فارسية يتربع على عرشها وهرز الديلمي. وكأن التاريخ يعيد نفسه الآن، ويعود التدخل الإيراني في اليمن مرة أخرى، على يد بعض أبنائه، وبقوة السلاح، دون أي اعتبار للمصالح العليا اليمنية”.
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).
- خيري شلبي، سيرة الملك سيف بن ذي يزن (القاهرة: مكتبة الدراسات الشعبية، د.ت).
- فتحي محمود، “عودة سيف بن ذي يزن”، صحيفة الأهرام، القاهرة، السنة 139، ع. 46838، 3 مارس (2015).