عبدالحميد وقصة إصابته بـ " Paranoia"

والده عبدالمجيد:

"ولدي سوداوي"

من يدرس بتعمق شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، سيجد فيها الكثير من الأمور التي تستوقفه ويبدو له شكلها وتكوينها الفكري والعقلي والنفسي ومدى تأثير ذلك وانعكاسه بوضوح على سلوكياته وتصرفاته في مراحله العمرية المختلفة بما فيها فترة حكمه التي دامت قرابة ثلاث وثلاثين سنة.
وفاة والدة السلطان وأثرها في تكوين شخصيته:
إن النشأة والتربية التي عاشها عبدالحميد الثاني بعد فقدانه لوالدته وهو في سن الحادية عشرة من عمره، أثرت فيه تأثيرًا بالغًا، بالرغم من معيشته في كنف زوجة والده السلطان عبدالمجيد، إلا إن عبدالحميد أصيب بحالة من الحزن والاكتئاب النفسي، حتى غدا شابًّا منعزلًا عن الناس يتصف بالعناد ويفر هاربًا من زحام الناس محبًّا للانزواء بعيدًا عنهم، حتى أنه كان يخجل من مشاركة أقرانه في اللهو واللعب، وغالبًا ما كان يقضي الوقت في لجة الأحزان والبؤس، انعكس ذلك بشدة خوفه من المجهول، وكان الخوف وهاجس الشر شيئًا فطريًّا في جبلّته، وهي امتداد لعلة النشأة والطفولة، ولهذا كان أبوه السلطان عبد المجيد يقول عنه: “إن ولدي مصاب بمرض الوسوسة والشك، إنه ولدي السوداوي”. لذا كان أخوه مراد يتسلى ويلهو بهذا الخوف المرضي المفرط الزائد عن حده عند أخيه الأصغر عبد الحميد، فمثلاً كان يمزح معه قائلاً: مالي أرى وجهك شاحبًا، ماذا أصابك؟ فتزداد عند عبد الحميد المخاوف وحالة الارتباك وحالة الوهم والشك أكثر فأكثر ويزداد أخوه مراد في إثارة مثل تلك المخاوف وتأخذه النشوة من ردة فعل عبدالحميد وانفعالاته.

عاش انطوائيًا يملؤه العناد... هاربًا من الناس.

ويقول عبد الحميد في مذكراته وخواطره مدافعًا عن نفسه والحالة التي كان يمر بها من الوهم والشك وسوء الظن بالآخرين: “دائمًا ما يغفل الناس عن أي ظروف تربيت ونشأت رازحًا تحت وطأتها، وحينما كان أبي يفرط في حب إخوتي ويبالغ في تدليلهم والحدب عليهم، فإني لم أكن أدري لأي سبب كان أبي يُسيئ معاملتي؟”. ويبدو أن حالة الوهم والشك في شخصيته استمرت معه طيلة حياته، ويذكر تحسين باشا رئيس دائرة الكتابة بقصر يلدز الذي عاصر وخدم السلطان وكان من المقربين إليه في مذكراته عن عبدالحميد قوله: “هذا الوهم المعروف عن السلطان عبدالحميد والذي يظهر أثره على كل أحواله وإجراءاته لم يفارقه طول حياته. وكان لهذا الوهم آثار مهمة وأليمة أحيانًا في تصرفاته بشكل عام”. 

السلطان عبد الحميد الثاني وجنون الارتياب (Paranoia):
حالة الوهم والشك والارتياب التي كان يمر بها السلطان عبارة عن حالة نفسية مزمنة عُرفت عند المختصين في علم النفس والعلاج النفسي بأنها حالة مرضية مزمنة تسمى “البارانويا” (Paranoia) وهو مصطلح مشتق في الأساس من كلمة إغريقية قديمة يُقصد بها سابقًا “الهذيان المزمن”، بيد أن هذا المصطلح، قد اتسع معناه فيما بعد ليشمل المريض الذي تلاحقه الأوهام والشكوك، أو ما يعرف بجنون الارتياب، وهو نمط تفكير ينجم عنه الشعور غير المنطقي بفقد الثقة بالناس، والريبة منهم والاعتقاد بوجود تهديد ما، مثل الإحساس بأن هناك أشخاصًا يراقبونه أو يحاولون إلحاق الأذى به بالرغم من عدم وجود دليل على ذلك، فيسقط المريض مشكلاته على غيره من الناس، ويرى نفسه ضحية لتآمرهم عليه.

رغم تظاهره بالدكتاتورية كان مصابًا بالرهاب والخوف.

أثَّرت حالة “البارانويا” على تصرفات السلطان عبدالحميد وسلوكياته منذ أن كان أميرًا ووليًّا للعهد حتى اعتلى سدة السلطنة، فقد استمرت تلك الحالة معه طيلة فترة حياته وخلال حكمه وأثرت في إدارته للحكم من الناحية الإدارية والسياسية. وقد استغل المحيطون به تلك الحالة المرضية لزيادة حالته في الارتياب والوهم والشك في نقلهم للأحداث الداخلية والخارجية، وكان بعض رجالات الدولة ممن تبوؤوا مناصب عُليا في الدولة يلجؤون إلى تخويف السلطان وقذف الرعب في قلبه وافتعال صور من التمرد والعصيان في شتى أركان الدولة من أجل توطيد وظائفهم ومكانتهم لدى السلطان، وخير مثال على ذلك الصدر الأعظم سعيد باشا الذي تولى منصب الصدارة العظمى أكثر من سبع مرات في عهد السلطان، بسبب استفادته من حالة جنون الارتياب التي كان يمر بها السلطان عبدالحميد، وأسهم في زيادة تلك الحالة لديه وترسيخها أكثر وأكثر، وكان ما كان من الضرر على البلاد. فالبعض من المعاصرين لفترة عبدالحميد يُحَمِّلون سعيد باشا مسؤولية كثير من المشكلات الداخلية والخارجية التي مرت بها الدولة، والواقع أنه قد يكون في ذلك قدر من الصحة ولكن الملام بالدرجة الأولى السلطان نفسه، فقد وصفه تحسين باشا بأنه حاكمٌ مستبدٌ ومطلقٌ بفطرته، وبقاؤه تحت تأثير سعيد باشا وإيحائه من يوم جلوسه على العرش.

وبتلك النفسية المريضة حكم عبدالحميد الإمبراطورية العجوز المترامية الأطراف وشدد في حكمه على حريات الناس من خلال هيئة الشرطة السرية والاستخبارات والتجسس على الناس وكتابة التقارير السرية عنهم، ولم يسلم حتى أخيه مراد الخامس من تلك المراقبة والتجسس وكتابة التقارير عنه رغم أنه كان مسلوب الإرادة محبوسًا في قصره، كما حارب حرية الصحافة وألجمها بشتى السبل والطرق بحجة الحفاظ على المجتمع العثماني وأمنه.

1.السلطان عبد الحميد الثاني، لمؤلفه تحسين باشا، ترجمة: كمال أحمد خوجة (الكويت: ذات السلاسل، 2017م). 

2.السلطان عبد الحميد الثاني شخصيته وسياسته، لمؤلفه: سليمان جوقه باش، ترجمة: عبد الله أحمد (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2008م).

3.”السلطان عبد الحميد الثاني مذكراتي السياسية 1891-1908م” (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1982م).

4.أكاديمية علم النفس https://acofps.com/vb/d/9026