عبد الحميد الثاني... رُغم زَيف سرديَّة رفضه بيع فلسطين للصهيونية
ازداد عدد المهاجرين اليهود إلى الضعفين في عهده ودفع هرتزل مبلغ (20 مليون جنيه إسترليني) لخزينة دولته
تعدُّ شخصية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أكثر النماذج الخلافية في التاريخ العثماني؛ إذ تصفه المصادر الأوروبية بـ “السلطان الأحمر“، في إشارة واضحة إلى ما تراه هذه المصادر من مسؤوليته المباشرة عن كثير من المذابح التي جرت في عهده، وعلى العكس من ذلك تحرص المراجع التركية ذات التوجه القومي والإسلاموي على رفض هذه السردية التي تقدمها المصادر الأوروبية عن عبد الحميد الثاني، وتقدِّم سردية تركية إسلامية تتجه إلى تحسين صورته، بل وصناعته بصورة البطل، ولعل ما كتبه المؤرخ التركي سليمان جوقة باش واصفًا إياه أنه “لم تستطع الاتهامات والافتراءات على حكم عبد الحميد أن تستمر وتَمضي قُدُمًا؛ لأنها لم تكن سوى افتراء عليه، ولربما كان للسلطان عبد الحميد أخطاء وأغلاط، والله وحده المُنَزَّه عن الخطأ والظلم… لكن هذا السلطان – عبد الحميد الثاني – حَرِيٌّ بأن يذكر بكل تجلة وتقدير، فاللهم ثَقِّل موازينه في دار الثواب“.
ولا يقتصر الجدل حول شخصية السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في التاريخ على المصادر الأوروبية والتركية، وإنما انتقل إلى المراجع العربية التي تناولت تاريخ الدولة العثمانية بشكل عام، أو التي تناولت تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني على وجه الخصوص، وتجمَّعَت العديد من العوامل وراء نشأة ظاهرة الدفاع عنه في بعض المراجع العربية التي ينتمي أصحابها على الأغلب إلى التيارات الإسلامية، وقد بدأت هذه الظاهرة مع الكتاب الأساسي في تكوُّن هذه الظاهرة، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية“، لمؤلفه المعروف محمد فريد بك؛ الذي ألَّف كتابه في مطلع القرن العشرين، وقام بإهدائه إلى عبد الحميد الثاني نفسه، الذي وضع أسس “الجامعة الإسلامية“، وإحياء الخلافة بشكلها التقليدي؛ لتوظيفها في سياسته الاستبدادية.
حاول عبد الحميد الثاني خداع الجماهير، ونسي أن للتاريخ كُتَّابًا حقيقيِّين لا ينطلي عليهم التزييف.
التيارات الإسلامية – وخاصةً بعد نكبة فلسطين في عام 1948- عملت على تحويل عبد الحميد الثاني إلى “أيقونة” إسلامية، تحت ادِّعاء أنه وقف في وجه الحركة الصهيونية، ورفض كل عمليات الاستيطان الصهيوني، وأن عملية إزاحته عن العرش كانت تمهيدًا لازدياد النفوذ اليهودي في فلسطين، وتمهيدًا تاريخيًّا لإعلان دولة إسرائيل بعد ذلك.
ويمكننا أن نرصد ملامح هذه السردية في العديد من الكتابات الت يينتمي أصحابها إلى التيارات الإسلامية، وبالقطع لن نستطيع أن نقدم دراسة مسحية لكل هذه الدراسات،لكننا سنختار بعض أهم هذه النماذج. وتعتبر المقدمة التي كتبها محمد حرب لترجمته لمذكرات السلطان عبد الحميد الثاني إلى العربية من النماذج الدالَّة في هذا الشأن، لا سيما أن محمد حرب هو في الأساس أستاذ للغة التركية، ومنذ البداية يشير إلى عبد الحميد الثاني على أنه “يشكل أساس فكرة الوحدة الإسلامية“.
ويذهب بعد ذلك حرب في طريق السردية الأسطورية حول عبد الحميد ودوره في الدفاع عن فلسطين، ويقول: “على الساحة الفلسطينية نجد أن الفلسطينيين يذكرون السلطان عبد الحميد الثاني بكل تقدير وبكل احترام؛ ذلك لأنه حمى بلادهم ولم يُفَرِّط فيها، فهي في نظره الأرض المقدسة التي ينبغي أن يحميها كخليفة للمسلمين“، وسنرى مدى هوان هذه السردية الأسطورية وهشاشتها، وخاصةً أمام الدراسات الحديثة.
لكن حرب لا يكتفي بذلك، بل يلجأ إلى نظرية المؤامرة، ويشير صراحةً إلى دور الصهيونية وراء إسقاط حكم عبد الحميد الثاني، وعلى الساحة اليهودية لا يخلو كتاب يهودي من إدانة عبد الحميد بأنه عرقل الفكرة الصهيونية، وعندما فشل اليهود في إقناعه أيَّدوا معارضيه، سواء من العثمانيين أنفسهم – الاتحاد والترقي ومَن شابههم – وأيَّدوا المحافل الماسونية في الجيش العثماني وفي الدولة، وأقاموا في أوروبا قيامة الصحافة“، هكذا يظهر لنا عبد الحميد الثاني كأنه أيقونة إسلامية، وحامي فلسطين، وأن إزاحته عن الحكم كانت مؤامرة من أجل ضياع فلسطين.
ونجد نفس ملامح السردية الأسطورية لعبد الحميد الثاني عند أحد أشهر مؤرخي حزب الإخوان الإرهابي، وربما المؤرخ المعتمد الأول لديهم، وهو عليّ الصلابي؛ حيث يضع الصلابي أحد أشهر كتبه حول “السلطان عبد الحميد الثاني وأسباب زوال الخلافة العثمانية“، ومن البداية يظهر التوظيف الديني للتاريخ عند الصلابي والسردية المقدسة التي يحاول رسمها حول تاريخ عبد الحميد الثاني؛ إذ يرى أن سقوطه كان سببًا رئيسًا لزوال ما يُسمِّيه الخلافة العثمانية، بل وضياع المسلمين: “غياب القيادة الربانية كسبب في ضياع الأمة“.
لم يكتفِ الصلابي بالنظر إلى عبد الحميد على أنه “القيادة الربانية“، بل يؤكد على أن اليهود كانوا السبب الرئيس وراء إبعاده عن الحكم بقوله: “إن حقيقة الصراع بين السلطان عبد الحميد الثاني واليهود من أهم الأحداث في تاريخ السلطان المسلم الغيور“.
ويربط ربطًا صريحًا بين إبعاد عبد الحميد عن الحكم، وبين المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ويرى أن “الغاية من هذا – الإطاحة بعبد الحميد– هي تحقيق المشروع الاستيطاني الصهيوني باستيطان فلسطين، وكان يهود الدونمة يشكِّلون اللبنة الأولى لتنفيذ المخططات اليهودية العالمية“.
وتُقدِّم الدراسات التاريخية العربية المنهجية والموضوعية سرديةً أخرى مغايرة عن عبد الحميد الثاني ومسألة الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ إذ رفض عبد الحميد في البداية التوسع في الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وأصدر قرارات بمنع هذه الهجرات، لكنه تحت ضغط الديون المتراكمة على دولته، وتدخلات الدول الأوروبية، تحوَّلت سياسته إلى التناقض الشديد بين أوامر منع الهجرة التي يُصدِرها في العلن وفشل التدابير العملية على أرض الواقع؛ لتنفيذ هذا المنع، والحد من الهجرات اليهودية إلى فلسطين، بل والأكثر من ذلك أن عبد الحميد الثاني دخل في مفاوضات مع زعيم الصهيونية العالمية هرتزل امتدت في الفترة من عام 1896 إلى عام 1903.
وتصل المؤرخة فدوى نصيرات إلى نتيجة مهمة وخطيرة حول مسؤولية السلطان عبد الحميد الثاني نفسه عن تزايُد الهجرات الصهيونية إلى فلسطين إذ تقول: “السلطان عبد الحميد الثاني يتحمل مسؤولية كبيرة جدًّا، إن لم نقل المسؤولية الأكبر في تسرُّب أراضي فلسطين للمنظمات الصهيونية، وقيام البنية الاستيطانية الأولية التي تأسَّسَت عليها دولة إسرائيل فيما بعد“.
وهنا نصل إلى أن السردية الإسلامية وظَّفَت شخصية عبد الحميد الثاني كبطل مدافع عن الإسلام وفلسطين أمام الاستيطان الصهيوني، وأغفلت كونه متناقضًا؛ يعلن دفاعه عن فلسطين، وفي الوقت نفسه ينهار أمام الصهيونية بحجة ضعف دولته وانهيارها، بسبب زيادة الديون المتراكمة عليها، وبالتالي يُرضي الرأي العام المحلي بشعاراته حول حماية فلسطين، وفي الوقت نفسه يَغُضُّ الطرف عن ازدياد الهجرات اليهودية، حتى أن المؤرخ التركي جوقة باش لم يستطع إنكار ذلك، حيث يقول: إنه مع بداية سياسة إصدار أوامر المنع من جانب عبد الحميد في عام 1882 كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ خمسة وعشرين ألفًا، ثم وصل هذا العدد في سنة 1908- سنة عزل عبد الحميد– إلى ثمانين ألفًا“.
وهنا ببساطة شديدة عمد عبد الحميد الثاني إلى الظهور أمام الجماهير بما يوافق رغباتها، فبعد إعلان رفضه بيع فلسطين دخلت إلى خزينة الدولة العثمانية مبالغ طائلة قياسًا بزمنه، حيث دفعت إليها الصهيونية العالمية مبلغ (20 مليون جنيه إسترليني)، وعمليًّا ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى أرض فلسطين ضِعفَي ما كانوا عليه قبل المفاوضات بين عبد الحميد الثاني وزعيم الصهيونية تيودور هيرتزل.
- سليمان جوقة باش، السلطان عبد الحميد الثاني، ترجمة: عبد الله أحمد (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2008).
- فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
- مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).
- محمد فريد بك المحامي، الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1981).