عبد الحميد الثاني

السلطان الأحمر في الحجاز

تعتبر فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني من أشد عصور الدولة العثمانية غموضًا وإثارة بشكلٍ كبير، فمن ناحية طالت فترة حكم عبد الحميد الثاني؛ إذ امتد من 1876م حتى عام 1909م، ومن ناحية أخرى تعدَّدَت الرؤى حول السلطان عبد الحميد الثاني، وحول تقييم دوره في التاريخ العثماني، وانعكاسات سياساته على المنطقة العربية، بل وعلى العالم في عصره بشكلٍ عام.

فإذا نظرنا إلى الدراسات التي ينتمي أصحابها إلى مرجعية إسلاموية سنجد صورة مثالية طوباوية، تكاد أن تُلحق عبد الحميد الثاني بقائمة الخلفاء الراشدين! فهو لديهم مُحيِي الخلافة الإسلامية في ثوبها الجديد من خلال مشروعه “الجامعة الإسلامية”، أي الرابطة الإسلامية التي تجمع الشعوب الإسلامية جميعًا، بصرف النظر عن القوميات أو الجغرافيا، وهو المُدافِع عن إسلامية وعروبة فلسطين، أمام سيل الهجرات اليهودية التي تسعى لتأسيس دولة إسرائيل.

وتختلف الصورة بشدة لدى الدراسات ذات المرجعية العروبية، والتي تنظر إلى السلطان عبد الحميد الثاني على أنه رمز الاستبداد، وتصف عصره بالاستبداد الحميدي، وتركِّز هذه الدراسات على ما عانته المنطقة العربية من اضطهاد وتعسُّف تحت حكم السلطان عبد الحميد الثاني، بل وتؤكد انصياعه للضغوط الدولية الغربية بفتح الباب من جديد أمام الهجرات اليهودية، مما مهَّد لقيام دولة إسرائيل بعد ذلك.

وإذا ألقينا نظرة على الدراسات الأوروبية حول عبد الحميد الثاني وعصره، سنجد تأكيدًا على استبداده، بل والأكثر من ذلك أن هذه الدراسات نعتت عبد الحميد بالسلطان الأحمر، تأكيدًا منها على المذابح وعمليات القتل التي قام بها ضد مناوئيه من رعاياه على اختلاف أجناسهم.

ويدفعنا ذلك إلى تتبُّع سياسات عبد الحميد الثاني تجاه الحجاز، هذه البقعة الطاهرة، أرض الحرمين الشريفين، بالقطع أوْلَى عبد الحميد الثاني الحجاز ببعض أوجه الاهتمام، من خلال تقديم بعض الخدمات لتسهيل شئون الحج، وذلك في إطار الدعاية له بأنه راعي الحرمين الشريفين، وخليفة المسلمين، لكن السياسات الواقعية على الأرض لم تكن على هذا النحو؛ إذ عانى الحجاز بشدة من جراء سياسة الاستبداد الحميدي.

ويظهر ذلك جليًّا من خلال العديد من المظاهر، يأتي في مقدمتها أن الحجاز عانى من جرَّاء الخلاف الحادِّ بين عبد الحميد الثاني وجماعة الاتحاديين المناوئة له في إستانبول؛ إذ كانت جماعة الاتحاد والترقي تسعى – في بداية أمرها – إلى وضع حد للاستبداد الحميدي من خلال تأكيد سلطة الدستور، وإشراك الشعوب والقوميات المختلفة في أرجاء الدولة في شئون الحكم، وصولًا إلى وضع يسمح بعد ذلك بأن السلطان العثماني يملك ولا يحكم، والتوسع في أشكال الحكم النيابي.

لكن السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان لا يُطِيق حُكم الدستور ولا الاتحاديين استطاع الانقلاب عليهم، وبدأ في عملية منظمة للتنكيل بالاتحاديين وأنصارهم في أرجاء الدولة العثمانية، ومن أسوأ ما قام به السلطان عبد الحميد الثاني في هذا الشأن إلقاء القبض على أبي الدستور “مدحت باشا” والعديد من أتباعه، ونفيهم إلى الطائف في الحجاز.

وبصرف النظر عما يمثِّله هذا الفعل من انتهاك واضح للدستور وقيم التحديث، فإن نفي السلطان عبد الحميد الثاني مناوئيه إلى الحجاز يعبِّر -في حقيقة الأمر- عن النظرة الحقيقية لعبد الحميد تجاه الحجاز، إنه منفى للأعداء، وليس الأرض المقدسة في الإسلام، أرض الحرمين الشريفين.

والأسوأ من ذلك ما يذكره المؤرخ أحمد السباعي عن حادثة مهمة وخطيرة وقعت على أرض الحجاز، وضد شريف مكة؛ إذ يذكر السباعي في تاريخ مكة أن أحد الشهود أفضى إليه بتفاصيل حادثة مروعة هزَّت مكة والحجاز، هي حادثة مقتل الشهيد الحسين بن محمد بن عبد المعين، وكان الاتحاديون قد اختاروا الحسين لمنصب شرافة مكة بعد وصولهم إلى الحكم في إستانبول؛ نظرًا لميل الشريف الحسين إلى أفكار الاتحاديين والفكرة الدستورية، بل ويقال: إنه اشترك في ثورة الاتحاديين على السلطان عبد الحميد.

ويؤكد السباعي في تاريخه أن عبد الحميد بعدما انقلب على الاتحاديين قرَّر تصفية مُناصريهم، ويرصد شهادة بعض المعاصرين لذلك قائلًا: “إن أعمال العنف التي شنَّها عبد الحميد ضد خصومه الاتحاديين اتصلت بمكة، وأنها أنشبَت أظافرها أول ما أنشبت بأمير مكة”.

ويروي المصدر أن السلطان عبد الحميد الثاني أصدر أوامره لعملائه السريين بالتصفية الجسدية لشريف مكة نتيجة مناصرته للاتحاديين.

وبالفعل تم اغتيال الشريف حسين في عملية غدر مُرِيبة؛ إذ طعنه أحد الأفغان أثناء زيارة الشريف الحسين لجدة، وتم إلقاء القبض على الأفغاني، وأثناء التحقيق معه لم يعترف بالسبب الذي دفعه إلى اغتيال الشهيد الحسين، وعلى إثر اغتيال الشريف الحسين قام السلطان عبد الحميد الثاني بتولية أحد المناصرين له، وهو الشريف عبد المطلب بن غالب، الذي كان مقيمًا آنذاك في إستانبول، في منصب شرافة مكة.

وإذا صحت الرواية التي ذكرها السباعي في تاريخه فإنها في الحقيقة تصبح سقطة جديدة في سجل فشل العثمانيين في إدارة الحجاز، هذا فضلًا عن بشاعة عملية الاغتيال في حد ذاتها، كما أنها ترجِّح ما وُصِف به السلطان عبد الحميد الثاني بأنه “السلطان الأحمر”.