في ملحمة "حلوة" نجد مع العثمانيين
الموت فيها "ولا نجسٌ يدنسّها"
في الرياض عام (1837) كان العثماني إسماعيل باشا الذي أُوكل إليه القضاء على السعوديين والإمام تركي بن عبدالله قبل اثني عشر عامًا (1825) يجوب مجلسه غضبًا وغيظًا، وهو القائد المزهو بقوة دولته وامتدادها الجغرافي وإسقاط الدولة السعودية الأولى، ويلوح بالبطش والقتل، وكان الصمت والاستغراب يُحيطان بمستشاريه وكبار جيشه، ويخيم على مقر القوات التركية الغازية للجزيرة العربية لتغيير إمامها ولإعادتها إلى الاحتلال العثماني، وذلك من خلال تعيين حاكم جديد لمنطقة نجد يتبع السلطنة العثمانية، ويخضع لها في كل تحركاته وشؤون حكمه.
ارتفع صوت القائد العثماني وسط جنود حملته بكبرياء وعنجهية بعد أن قُرِئ له رد أهالي الفرع (الاسم القديم لحوطة بني تميم جنوب الرياض) برفض الخضوع للجيش التركي والتبعية له ولسلطته ولعاصمته، فهاهم يصرخون في وجه التُّرك: “إن كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون!” في إعلان صريح عن عدم الخضوع لكل ما هو تركي غريب على أرض نجد وسمائها.
هذا الرد الشجاع من بلدة صغيرة في وجه جيش قوامه (7000) جنديٍّ يجعلهم يزمجرون غضبًا، وهذا ما أودى بإسماعيل باشا إلى حالة من عدم الاتزان وقلة التدبير وزيادة التوحش، إذ تشرّب أوامر قيادته بإخضاع عرب الجزيرة العربية محاولاً إذلالهم وإهانتهم، وإعادة جريمة حرب الدرعية التي ليست من الإنسانية في شيء، فأمر الباشا على وجه السرعة الحدادين والصّناع بعمل الفؤوس و(الفواريع)، وأمر الجيش بالاستعداد لغزو أهل تلك الناحية، ثم أرسل إلى الأقاليم النجدية التي احتلها عنوةً يستلحقهم في جيشه لاجتثاث من يصفهم بالأشقياء العصاة، للتنكيل بهم واستحلال أموالهم وبلادهم.
في الجهة الأخرى، كانت مجالس حوطة بني تميم تناقش وتتداول بين كبارها الاستعداد ورد العدوان الذي يخطط له القائد العثماني وحماية الأرض والعرض، خاصةً أن ذاكرتهم لا تزال تحتفظ بكثير من قصص ظلم الأتراك ووقائعهم وجسارتهم على المحرمات، وفتكهم بمن ينالون، ونقضهم العهود والمواثيق، وأشدها إيلامًا ما تحدث به النازحون إلى بلدتهم من أهل الدرعية الناجين من الغزاة الظالمين؛ لذا كان القول السائد الذي يتردد على ألسنة فتيان الفرع: “الموت فيها ولا نجس يدنِّسها”.
حزم أهل حوطة بني تميم أمرهم، وأجمعوا على الترتيب والتخطيط للمواجهة المرتقبة، فبدأوا بإرسال “السُّبُور” العيون، يتتبعون أخبار الغزاة ويرصدون تحركاتهم وأعدادهم وعتادهم الحديث من المدافع والبنادق، وكانت المعلومات الواردة تتحدث عن مئات المقاتلين المدججين بالسلاح يقطعون المسافات والتضاريس متجهين إلى حوطة بني تميم (160 كيلاً عن الرياض) يتزايدون ولا ينقصون، كلّما مرّوا ببلدةٍ في طريقهم أمروا أهلها لينضموا إليهم ويخرجوا للقتال، لكن الأهالي في وادي الفرع استعانوا بالله العلي القدير، ثم رسموا خطة المواجهة المحكمة.
في الثامن والعشرين من ربيع الأول عام (1253هـ) الموافق (1837م) أمر إسماعيل باشا قواته بالتحرك قاصدًا حوطة بني تميم، سار يومه كاملاً من الرياض وبات ليلته عند مياه “الجزعة”، وفي اليوم التالي وصل إلى “الحاير” وأقام فيه يومًا واحدًا ثم توجه إلى “السلمية” وبات فيها، ثم توجه منها إلى “الدلم” وأقام فيها عشرة أيام يتزود مع جيشه بالقمح والشعير، ثم توجه إلى”زميقة” وأقام فيها يومًا واحدًا ثم أتى المياه المسماة “خفس دغرة” وأقام فيها ليلة واحدة، ثم عقد عزمه وتوجه إلى الحوطة، بعد أن أشار عليه أحدهم بغزو الحلوة أولاً .
وقبل وصول الغزاة بأيام قرر أهالي الحلوة بعدما علموا أنهم المستهدفون بالتحديد من قبل الجيش الغاشم، وبعد ما سمعوا كثيراً عما يقترفه جيش العثمانيين من جرائم وسوء، قرروا أن يُخفوا نساءهم وأبناءهم ومن ليس له قدرة على حمل السلاح والمواجهة في شعيب “مُطْعِم” الملاذ الآمن الذي لن يصل إليه أي مسلحٍ تركي وفي الرجال البواسل رمق، وبذلك تكون بساتين الحلوة وواديها ميدان المعركة المنتظر، ثم عمدوا إلى الآبار و”القلبان” مصادر مياه الشرب الوحيدة في المنطقة، فألقوا فيها عسبان النخل والتِّبِن حتى لا يستفيد منها الغزاة، وأبقى أبطال الحلوة لهم موردًا مائياً معروفا اسمه “عُسَيْلان” يشربون منه وحدهم، ولا يستطيع الغزاة أن يصلوا إليه، ثم وضعوا المتاريس في سفوح الجبال التي يتوقعون أن ينزل منها الغزاة البغاة المعتدون، ووزعوا المهام بعد أن أحكموا خطة الكرّ والفرّ والاستدراج، وحفروا خندقهم، مستعينين بالله ثم بعدالة قضيتهم في الوقوف ضد المحتل الغاشم.
وفي السادس عشر من ربيع الثاني من العام نفسه، وصل إسماعيل باشا بقواته التركية الغاشمة إلى الحوطة، وتجنب النزول من واديها في مقصده إلى الحلوة، فجعلها جانبًا وأكمل المسير إلى الحلوة، وكان تعداد أبطالها يومئذ مئتي رجل، ومعهم إخوانهم من بلدتي القويع والعطيان ولسان حالهم يقول:
أقبلت جحافل الأتراك يغشاهم الكبر والخيلاء والزهو بعددهم وعتادهم، وفي الرابعة فجرًا، كان الأتراك قد نصبوا مدفعيْن على رأس الجبل المُطِلّ على الحلوة، والجنود يحيطون بهما، ضربوا مباني الحلوة وأحياءها الآمنة بالقنابل، وبدأت معركة شديدة الضراوة أظهر فيها السعوديون بسالةً وصبرًا وثباتًا أذهل الأتراك بادئ الأمر، استخدم فيها الأبطال كل ما يعرفونه من أساليب الحرب، فاستدرجوا الأتراك وانسحبوا إلى سفح الجبل ووصلوا إلى باطن الوادي، لكن الأتراك ومن معهم لم يندفعوا إلى باطن الوادي، عاد الأبطال مرة أخرى إلى متاريسهم واستأنفوا المعركة من جديد، وحين التحم الصفّان، تراجع أهل الحلوة إلى الوادي ليستدرجوا الغزاة من جديد، فابتلع العثمانيون الطعم هذه المرة، واندفعوا للمطاردة في الوادي وداخل البساتين في معركة حامية الوطيس، أشبه بحرب الشوارع والممرات، واشتد الأمر وأهل الحلوة في قتال عظيم معهم من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر.
قدِم أبطال الحوطة إلى الميدان باذلين أنفسهم نصرةً لجيرانهم أهل الحلوة بصد الأعداء ومحاربتهم بكل قوة، فالمصير واحدٌ والوطن واحد. دخل قسم من أهالي الحوطة ميدان المعركة مشاركين إخوانهم التصدي للمعتدين، بينما تسلل قسم آخر وصعدوا الجبل وعيونهم على المدفع التركي الشرس الذي يلقي قذائفه على بلدة الحلوة ملحقًا الأضرار بها وبأبطالها، لتدور معركة شديدة بينهم وبين الأتراك المدافعين عن المدفع، يستميت الأتراك دفاعًا عن مدفعهم، أما المهاجمون من أهل الحوطة فكان همهم الاستيلاء على المدفع ليخلصوا إخوانهم من ضرباته، وبالفعل استطاعوا أن يلقوا بالمدفعيْن من أعلى الجبل، وبينما كانت المواجهة في أشد أوقاتها، انهزم الجيش التركي وقتل منهم الكثير على أرض المعركة الوطنية الشريفة، وتفرق الباقون هاربين على الجِمَال، وقسم كبير منهم هرب ناحية الصحراء ليهلك هناك في (أم العظام) كما تذكر بعض الروايات الشفهية، فيلتحق أهل نعام والحريق نازلين مع الجبل الشمالي بإخوانهم في المعركة، فتشتد عزيمة الأبطال بنصرة إخوانهم، وتقوى عزائمهم، ليلاحقوا فلول العسكر.
قتلوا 36% من الغُزاة الأتراك.
دفنوا قتلى الأعداء بأخلاق النبلاء.
رأى إسماعيل باشا بعينه جنوده يتساقطون ويتناثرون ويلوذون بالفرار، أيقن أن الهزيمة شنعاء والفضيحة نكراء، فركب حصانه مع بقية رفقته القليلة، ولاذ بالفرار، محملاً بالخزي والعار. وقد ذكر القائد العثماني المهزوم في تقريره العسكري الذي أرسله إلى قائده في المدينة المنورة مقتل (2488) خيّالًا وجنديًا، ولم يتبق منهم إلا (1688).
أشرقت على الحلوة شمس جديدة ويوم جديد معززة بالانتصار والعزة والكرامة، وذاع صيتها بين البلدان بطرد الجيش التركي الحديث وإلحاق الذل به، ودحر مخططه الإجرامي، كيف لا؟! وهي حاضنة الخطوات الأولى لتأسيس الدولة السعودية الثانية بقيادة الإمام تركي بن عبدالله، فقد قدمت أُنموذجًا للولاء الوطني والدفاع عن الأرض.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط3 (الرياض: وزارة المعارف، 1974).
- محمد بن بليهد، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، ط3، (الرياض: مرار للطباعة، 1998).
- خالد الفرج، الخبر والعيان في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن الشقير (الرياض: مكتبة العبيكان، 2000).
- عبدالله البسام، علماء نجد خلال ثمانية قرون، ط2 (الرياض: دار العاصمة، 1999).
- خليفة المسعود، “خالد بن سعود وعبدالله بن ثنيان بين التأييد المحلي والدعم العثماني“، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مجلد 24، ع. 93، (2005).