أبو الأعلى المودودي

كان ضمن أصداء الدعاية "الحميدية" في الهند

يعتبر إنهاء الدولة العثمانية عام (1924) على يد مصطفى كمال أتاتورك من اللحظات الفارقة في تاريخ الشرق الأوسط. وكان الهدف الرئيس الذي يسعى إليه أتاتورك من وراء ذلك؛ تجاوز إرث الدولة العثمانية، والعمل على بناء تركيا مدنية حديثة. لكن خطوة إنهاء الدولة العثمانية كان لها صداها خارج تركيا، لا سيما من قبل التيارات الدينية الإسلامية التي عاشت في ظل أجواء الدعاية السياسية لنظام الخلافة المزعومة، الذي روَّج له السلطان عبد الحميد الثاني، في محاولة منه للارتكاز على بُعد ديني أيديولوجي يواجه به الحالة المتردية التي وصلت إليها الدولة العثمانية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكن السياسات الدينية للسلطان عبد الحميد الثاني فشلت في مسعاها، إلا أن تأثيرها المعنوي -للأسف- كان كبيرًا بعد ذلك في نشأة تيارات الإسلام السياسي.

ويلفت المفكر اللبناني رضوان السيد الانتباه إلى ملاحظة مهمة في شأن أثر نهاية الدولة العثمانية على نشأة تيارات الإسلام السياسي: “كان مصطفى كمال قد ألغى الخلافة بتركيا عام 1924، وأنشأ الجمهورية العلمانية. والطريف أن ردود الفعل الأولى على إلغاء الخلافة جاءت من الهند ومصر، وهما بلدان ما كانا خاضعين للدولة العثمانية، مما يدل على أن المسألة ما كانت مسألة دين جرى النيل منه، أو أن مؤسسة سياسية دينية تحطمت، بل هو الشعور بالخوف على هوية المجتمعات والدول لدى قسم من النخب الطالعة إبان نشوء الدولة الوطنية في حقبة ما بين الحربين”.

ومن أهم رموز تيار الإسلام السياسي في الهند أبو الأعلى المودودي، الذي لم ينحصر تأثير تعاليمه على الهند والباكستان فحسب، بل امتد ليشمل العالم الإسلامي بأكمله، مع ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات، على رأسها اللغة العربية.

وُلِد أبو الأعلى المودودي عام (1903) في الهند زمن الاستعمار البريطاني، قبل تقسيم شبه القارة الهندية الذي حدث عام (1947)، إلى الهند والباكستان على أساس طائفي. ودرس الفقه الإسلامي، وعمل لبعض الوقت في الصحافة، لكنه تفرغ بعد ذلك للكتابة في شؤون الدين، ليصبح من أهم مُنظِّري تيار الإسلام السياسي.

ويشير بعض الباحثين إلى مدى تأثير إلغاء الدولة العثمانية عام (1924) على أفكار المودودي، وعلى تطور اتجاهاته المتطرفة بعد ذلك: “شهد المودودي سقوط الخلافة العثمانية، وما صاحب ذلك من انقسامات في العالم الإسلامي، وما نتج عنه من دويلات على الطراز الغربي”.

وهناك وجه شبه بين أبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند، وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، من حيث تأثر كلاهما بمسألة سقوط ما يطلقون عليه الخلافة العثمانية، وتقديس الفترة العثمانية، على أنها آخر خلافة إسلامية.

ويؤكد البعض على ذلك الترابط الفكري بين المودودي في الهند والبنا في مصر من حيث إن المودودي هو صاحب الرؤية القائلة بأن السلطة في الإسلام لها طبيعة ثيوقراطية، أي دينية مقدسة، كما أن حسن البنا هو صاحب مقولة: “الإسلام دين ودنيا، مصحف وسيف”، وكيف سيتطور هذا الفكر بعد ذلك إلى مقولة “الحاكمية” التي تعتبر أن الحكم لله.

المودودي في الهند لا يقل تطرفًا عن مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية في مصر

كما يشير البعض إلى تأثير الظروف المحلية في الدفع بأفكار المودودي نحو رفض الواقع في الهند، وخاصةً الاستعمار الإنجليزي، ومظاهر التغريب في الهند، وأيضًا الصراعات الدينية في الهند بين الطوائف المتعددة والمختلفة فيما بينها، لا سيما بين الهندوس والسيخ والمسلمين.

من هنا يبدأ المودودي في الترويج لإعادة إحياء الخلافة من جديد، بل ويرى أنها -من وجهة نظره- أفضل من الديمقراطية الغربية، وأن الخلافة هي الديمقراطية على النمط الإسلامي: “هناك فرق بينها -الخلافة- وبين الديمقراطية الغربية، هو أن فكرة الديمقراطية الغربية تقوم على مبادئ الحاكمية الشعبية، أما في خلافة الإسلام الديمقراطية، فالشعب يسلم بحاكمية الله، ويجعل سلطاته محدودة بحدود قانون الله برضاه ورغبته”.

وأكد المودودي في كتاباته على فكرة الحاكمية، التي تجعلها تصطدم مع الأنظمة الحاكمة، كما عمل على نشر فكرة الجهاد لتطبيق ما أطلق عليه “الحاكمية لله”. والمثير أن أفكار المودودي انتشرت سريعًا في أرجاء العالم الإسلامي، وكان من أهم المتأثرين بها الإخواني المتطرف المصري سيد قطب، الذي طور أفكار المودودي، عبر عدة كتب جديدة، روج لأفكار الحاكمية لله، وجاهلية المجتمعات الإسلامية، وبالتالي ضرورة مواجهة وإسقاط “الطاغوت”، ويقصد بها الأنظمة الوطنية الحاكمة في العالم الإسلامي.

هكذا أدى تقديس “العثمانية” إلى صناعة أسطورة إعادة إحياء الخلافة من جديد، عبر تيارات الإسلام السياسي، التي للأسف لم تصطدم مع الأنظمة الحاكمة فحسب، بل مع مجتمعاتها أيضًا بعد وصفها إياها بمجتمعات الجاهلية المعاصرة.

  1. أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، تعريب: أحمد إدريس (الكويت: دار القلم، 1978).

 

  1. رضوان السيد، أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي (أبو ظبي: دار كلمة، 2014).

 

  1. رضوان السيد، الدولة في الفكر السياسي الإسلامي: ضمن كتاب مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين، تحرير: معتز الخطيب، القاهرة (2010).

 

  1. زلوف رزقي، الفكر السياسي عند أبي الأعلى المودودي، رسالة ماجستير، جامعة بوضياف، الجزائر (2018).

 

  1. عليّ العميم، لماذا وكيف انبهر سيد قطب بالمودودي، موقع العربية، 25 ديسمبر (2018).