الحركيُّون والمؤدلجون

تجاوزوا التاريخ الحقيقي للمزيَّف دفاعًا عن عبد الحميد الثاني

يُعَد عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الثاني السلطان الرابع والثلاثين من سلاطين الدولة العثمانية، وآخر من امتلك سلطة فعلية منهم، وتولى الحكم عام (1876)، ثم أُبعِد عن العرش عام (1909) بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 10 فبراير (1918)، تلقى تعليمه بالقصر السلطاني، وأتقن اللغات: الفارسية والعربية.

عُرف عبد الحميد الثاني بأنه صاحب روح متقلبة وقرارات خاطئة، فبالرغم من أنه ادَّعى الإصلاح السياسي في بداية عهده، وعهد بمنصب الصدر الأعظم إلى مدحت باشا أحد زعماء الإصلاح، وأمر بإعلان الدستور؛ فإنه انقلب عليه سريعًا، ورغم ادِّعائه الصلاح والاهتمام بالمرجعية الإسلامية فإنه قَبِل دستورًا مقتبسًا عن دساتير دول أوروبية مثل: (بلجيكا وفرنسا وغيرها)، الدستور الذي ضم (119 مادة) تضمَّنَت حقوقًا يتمتع بها السلطان كأي ملك دستوري، وعُرف في الغرب باسم “السلطان الأحمر”، أو “القاتل الكبير”، بسبب مذابح الأرمن التي بدأت في فترة توليه السلطنة.

لا يمكن فهم شخصية عبد الحميد الثاني من خلال السردية الإسلاموية، التي اختلطت بالكثير من الأكاذيب والرومانسيات، في محاولة ليس لتحسين سمعة السلطان فقط، بل لإنقاذ الرمزية “الخلافاتية” التي لطالما أراد الإسلاميون إبقاء جذوتها مشتعلة في العقل والوجدان العربي.

لقد تواطأت التنظيمات الإسلاموية مع العثمانيين الجدد؛ لتحويل عبد الحميد من سلطان سقطت بسبب سياسته البراجماتية فلسطين والأقاليم العربية الأخرى – التي كانت تحت احتلال بلاده بيد الاستعمار – إلى سلطان صالح، والغريب أن محاولة تحسين صورته تحولت إلى محاولة نقله من رمز السقوط إلى رمزية المناضل من أجل الحقوق الإسلامية والعربية، فهل ذلك كان حقيقيًّا.

في بحث لـ سليمان الضحيان يقول: “أكثر السلاطين – العثمانيين- تمجيدًا من الحركيين الإسلاميين السلطان عبد الحميد الثاني، فهو يُعَدُّ في نظرهم بطلًا إسلاميًّا، لكن بقراءة تاريخ السلطان عبد الحميد يتضح أنه من أكثر السلاطين المتأخرين استبدادًا، فنتيجة ضغوط الحركة الدستورية أسَّس برلمانًا (مجلس المبعوثان)، وقبل أن يتم المجلس دورة انعقاده الثانية عطَّل السلطان  عبد الحميد المجلس، وأمر بعودة النواب إلى بلادهم، ونفى البارزين منهم، ولم يَعُد عقد المجلس ثانية للاجتماع طوال 30 عامًا، ووسع من صلاحيات المخابرات التي كانت مهمتها التجسس على الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية”، ومحصل القول حسب الباحث: إن عبد الحميد مجرد سلطان مستبد، ولا يستحق الهالة التي وضعها الحركيون.

عهد عبد الحميد الثاني:

مرت الدولة العثمانية إبَّان عهد عبد الحميد الثاني بأزمات دولية وأخرى داخلية خانقة، هدَّدَت مصير الدولة العثمانية ووحدة أراضيها، فمنذ اليوم الأول الذي تولى فيه عبد الحميد عرش الإمبراطورية وجد أن العديد من الثورات تقوم عليه وعلى سلطانه في العديد من الأقاليم التي وقعت تحت الاحتلال العثماني، بدءًا من إقليمَي البوسنة والهرسك، وليس انتهاءً ببعض أطراف الجزيرة العربية، إضافةً إلى الحرب المباشرة مع روسيا القيصرية التي كشفت عن ضعف الدولة العثمانية في حماية حدودها، كما استولت فرنسا على تونس في عهده عام (1881)، وإنجلترا على مصر عام (1882).

وعلى صعيد الإدارة الداخلية لعبد الحميد فقد تم إعلان الدستور (1876)، وتم إنشاء مجلس نيابي، لكنه عاد وعطَّل الدستور وحلَّ البرلمان سنة (1878)، وهو ما جعل حكمه ديكتاتوريًّا بشكلٍ مطلق على مدى ثلاثة عقود متتالية كانت الخزينة العثمانية فيها شبه خاوية، والديون تُكَبِّل الدولة، الأمر الذي دفع الحكومة إلى التفتيش باستمرار عن مصادر دولية جديدة للقروض بفوائد وشروط قاهرة.

وعلى الرغم من كل تلك المعوقات فإن عبد الحميد الثاني نجح في المحافظة على حكمه بالقمع والاستبداد، كما حاول كسب ولاء المسلمين بدعمه فكرة الجامعة الإسلامية التي رأى بها سياجًا يحمي دولته من الأخطار التي كانت تحيق بها من الدول الغربية، وفي المقابل حارب خصومه، مستعينًا في سبيل ذلك بأجهزة أمن قمعية تعتمد على شبكة واسعة من المراقبة والتجسُّس.

شخصية السلطان المتقلبة وإخفاقاته السياسية كانت هي الرصاصة الأخيرة التي أصابت السلطة العثمانية، وهي التي حاول العثمانيون الجدد إخفاءها، لذلك كان عبد الحميد من أكثر السلاطين الذين أخطأوا في السياسة، وخاصة معالجته للتحديات بالمذابح والاستبداد، ولعل لقب السلطان الأحمر يعبر عن ذلك بوضوح، بسبب المذابح التي ارتُكِبَت في عهده، بل وقيامه شخصيًّا بتشكيل مليشيات سُمِّيَت باسمه، عملت على التطهير السياسي بناءً على الولاء والهوية والمرجعية الدينية، لقد كانت مذابح الأرمن التي وقعت في عام (1894) وحتى عام (1896)، واحدة من أكبر إخفاقات السلطان الذي استباح حياة ملايين من المواطنين الأرمن العُزَّل، وهي أعمال عنف ارتكبتها الدولة العثمانية ضد الأرمن الأتراك، وكانت تهدف إلى إبادة جماعية، كانت التهمة الوحيدة أنهم خانوا الدولة مع الروس، وأنهم جواسيس يحاولون الانقلاب على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، تُهَم مرسلة لكنها أدَّت الى نحر وقتل الملايين.

خيوط اللعبة تنفرط من بين يدي السلطان:

بعيدًا عن الصراع داخل القصر بين التيار السلطاني المتحالف مع الدين، وبين التيار القومي الليبرالي ذي النزعة العلمانية، إلا أن عدم إدراك عبد الحميد للأوضاع الخطيرة التي وصلت إليها بلاده، وتصرفاته وقراراته كانت هي بلا شك ما أدَّى في نهاية المطاف لانهيار بلاده.

يقول الباحث ناصر عبد الرحيم حسين مؤلف كتاب (الصراع بين قوى الإصلاح والسلطان عبد الحميد الثاني): “أدى تدهور حال الدولة العثمانية وفقدان هيبتها وبعض أراضيها إلى البحث عن حلول لهذا الوضع المتأزم رغبة في العودة إلى عصور الرقي والهيبة. وانشغل بهذا الأمر کلٌّ من السلطة الحاکمة المتمثلة في السلطان ورجال الدولة، وأيضًا المثقفون، لکن جميع المحاولات لم تمنع الدولة وتوقفها من حالة انهيارها التي تسارعت وتيرتها يومًا بعد آخر”.

ويشير الباحث إلى انشغال مثقَّفي الدولة بأعمال الإصلاح التي هدفت إلى عودة الدولة إلى سابق عهدها من قوة وهيبة، لکن هؤلاء المثقفين، الباحثين عن إصلاح الوضع، واجهوا صعوبات جمة من قِبَل السلطة الحاکمة – هي هنا سلطة عبد الحميد التي كانت في أسوء تصرُّفاتها – التي كانت تَقضِي بحبس البعض ونفي البعض الآخر، واختلفت الرؤى الإصلاحية بين المثقفين والسلطان عبد الحميد الثاني ورجال الدولة.

في الوقت الذي آمَن فيه السلطان بضرورة الإصلاح وفقًا لرؤيته للمجتمع العثماني، نجد أن جماعات الإصلاح تؤمن بالتغيير الجذري لکل شيء في المجتمع من نظام حکم وقوانين وتشريعات وفقًا للنمط الأوروبي دون مراعاة أي خصوصية للمجتمع العثماني.

لقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني التخلص من خصومه ومعارضيه بالقتل، ومنهم مدحت باشا ورفاقه، وهو ما أحدث الكثير من الانشقاقات وانحراف الدولة عن مسارها.

دور السلطان في ضياع فلسطين:

تقول فدوى نصيرات في كتابها (دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين): “يُعَدُّ فَرمان تَملُّك الأراضي أحد التنظيمات التي تركت بصمات واضحة المعالم على أراضي الدولة العثمانية، لقد جاء – الفرمان- نتيجة الضغوط الخارجية التي حتمتها تدخلات الدول الأوروبية،  والتنافس فيما بينها في النشاط القنصلي والديني والقافي  والاقتصادي،  وضغوط سفرائها في إسطنبول  والقنصليات المنتشرة في المدن الأخرى، والمطالبة برعاياهم بتملك الأراضي والعقارات، وما أن صدر هذا الفرمان، حتى أخذ المهاجرون اليهود ممن يحملون جنسياتها – العثمانية – بتشييد الأحياء وشراء الأراضي لأغراض البناء حتى دون حاجة لأخذ موافقة إسطنبول”.

ضاعت فلسطين، وأصبحت أراضي جاذبة للمواطنين “اليهود العثمانيين”، وأبناء عمومتهم المهاجرين الذين توافَدوا إلى السلطنة، وهي من سمحت لهم بلَمِّ الشمل.

لقد كان لتحالف عبد الحميد الثاني مع مؤسِّس الحركة الصهيونية “هيرتزل” دوره الكبير في ضياع فلسطين للأبد، كما أن إدارته الفاشلة للعلاقات مع الحلفاء، وإبقاء تحالُفه مع دول ألمانيا جعل من بلاده إحدى ضحايا الحرب العالمية الأولى، كان اقتصاد بلاده مُثقَلًا بالديون، ورهينة لدول أوروبية عديدة، ما اضطره لبيع أجزاء من بلاده لصالح سداد الديون، لكن فلسطين كانت ضحية قرض جاءه من صديقه هيرتزل، الذي منحه عرفانًا بذلك النيشان المجيدي.

أضاع فلسطين وأقنعهم بمبررات ساقها في مذكراته.

ومع أن فلسطين هي واحدة من أهم القضايا التي استخدمها الحركيون والإسلام السياسي، إلا أنهم يَغُضُّون النظر عن فشل عبد الحميد في إدارة ملفها، بل إنهم يغسلون ما قام به، ويقدمونه على أنه خدمة ودعم لعروبة فلسطين، بينما التاريخ والحقائق التي لا يمكن محوها وهي تقول بأن السلطان عبد الحميد الثاني سبب ضياعها بسبب تصرفاته وتواطؤه مع الحركة الصهيونية، بلا شك إننا وبعد مرور قرن وأكثر من رحيل عبد الحميد لا تزال تدفع منطقتُنا العربية الثمن غاليًا جرَّاءَ تصرُّفاته وأخطائه السياسية.

  1. فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
  2. مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).
  3. ناصر عبد الرحيم، “الصراع بين قوى الإصلاح والسلطان عبد الحميد الثاني في رواية (الموت في الطائف) للأديب حفظي طوبوز”، مجلة بحوث كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر، ج121 (2020).
  4. سليمان الضحيان، الحركيون الإسلاميون والحنين للدولة العثمانية، صحيفة مكة، 17 يوليو (2017).