بعد قمع انتفاضة بني طرف (1945)

أجبرتهم قوات الشاه على الجوع والعطش والموت سيرًا على الأقدام إلى طهران

استفادت إيران من متغيِّرات عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ تواطأ الشاه رضا بهلوي مع بريطانيا على ابتلاع الأحواز، وإسقاط حاكمها العربي الشيخ خزعل، وإلقاء القبض عليه سنة (1925)، ثم نفيه وقتله بعد ذلك.

منذ الاحتلال الإيراني للأحواز لم تنقطع السياسات الجائرة للحكم الفارسي الغاشم، الذي في مقابله قام عرب الأحواز بالعديد من الانتفاضات ضد طهران وسياستها الداعية إلى إفقار الأحواز، وتفريس الأرض والسكان، وتقدِّم الباحثة اللبنانية عايدة العلي سري الدين تفسيرًا للسياسة العنصرية الإيرانية: “بالنسبة للحقائق القومية فمن المعروف أن عداء الفرس للقوميات هو بمثابة حركة شاملة لا تخص عربستان وحدها، ولكن تركيز هذا العداء في عربستان وُلِد كردة فِعل عند الفرس للزعامة العربية في العصر الإسلامي”، هكذا ترى الباحثة السياسة العنصرية الفارسية تجاه القوميات غير الفارسية في إيران، مع تركيز سياسة التفريس على عرب الأحواز، نتيجة العقدة التاريخية لدى الفرس، من سيادة الحكم العربي لفارس في العصر الإسلامي.

وكان من الطبيعي أن يَهُبَّ عرب الأحواز في انتفاضاتٍ متتالية ضد هذه السياسات الفارسية العنصرية، ولعل من أهم هذه الانتفاضات انتفاضات بني طرف، وأهمها انتفاضة بني طرف الثانية التي حدثت عام (1945)؛ إذ امتدت شرارة هذه الانتفاضة لتشمل العديد من القبائل العربية الشهيرة في الأحواز مثل بني سالة وبني لام والشرفة والمحيسن، وتُنسَب هذه الانتفاضة إلى بني طرف، وهم من القبائل العربية الأصيلة التي نزحت للعيش في الأحواز منذ مئات السنين، حيث استقرت في الإقليم، وعُرِف عن بني طرف الأصالة العربية وعدم الرضا بالهوان.

وترتبط ظروف هذه الانتفاضة بالمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في أواخر زمن الحرب العالمية الثانية، ورغبة طهران الدائمة في فرض المركزية الفارسية على المناطق غير الفارسية، لا سيما الأحواز العربي، لكن السبب المباشر كان محاولة الفرس فرض تغيير الأزياء العربية، وأيضًا نزع سلاح هذه القبائل، ومن المعروف مدى ارتباط العربي بزيه وسلاحه.

اندلعت انتفاضة بني طرف الثانية في عام (1945)؛ حيث واجه عربُ الأحواز وليس لديهم إلا الأسلحة الخفيفة جحافلَ الجيش الفارسي المزوَّدة بالأسلحة الثقيلة، وفي بداية الانتفاضة نجحت القبائل العربية في التفوق على القوات الفارسية، كما نجح العرب في فرض سيطرتهم على العديد من المدن والقرى ومخافر الشرطة والاستحكامات العسكرية الفارسية، واستمرت هذه الانتفاضة لعدة أشهر ضَعُفت فيها القبضة الحديدية الفارسية لصالح القبائل العربية.

وخافت طهران من نجاح الثورة في الأحواز؛ إذ ربما تنتقل رياح الثورة إلى العديد من الأقاليم الأخرى في إيران، وعلى ذلك أعدَّت آلة الحرب الفارسية عُدَّتها، وأرسلت الحشود العسكرية إلى الأحواز معزَّزة بالمدرعات والمصفَّحات، بل واستعانت بالطائرات العسكرية المقاتلة لقمع هذه الانتفاضة، ولم تكن مهمة الجيش الفارسي بالأمر السهل نظرًا لبسالة القبائل العربية في الدفاع عن هويتها، فضلًا عن الاستفادة من الطبيعة الجغرافية للأحواز، حيث كثرة الأنهار والمستنقعات وبساتين النخل التي تشكِّل حاجزًا طبيعيًّا يَحُول دون التقدم السريع للآليات العسكرية الفارسية.

وأمام هذه المقاومة التي أبداها رجال القبائل العربية لجأت آلة الحرب الفارسية إلى سياسة الأرض المحروقة؛ إذ قامت القوات الفارسية بقصف القرى والمدن وتجمُّعات العشائر العربية، وتدمير المنازل وحرق المزروعات في مجزرة كبرى لم يشهدها الأحواز من قبل، واستخدمت في ذلك العمل الإرهابي الطيران العسكري، ورغم ذلك صمدت القبائل العربية إلى حين، وهناك روايات تاريخية محلية تتحدث عن نجاح مقاتلي العشائر العربية في إسقاط طائرة فارسية بأسلحتهم الخفيفة.

وأمام هذه المقاومة شدَّدت آلة الحرب الفارسية من قوتها العسكرية، واستطاعت قمع هذه الانتفاضة، ولم تكتفِ العنصرية الفارسية بالقمع، بل عمدت بعد ذلك إلى محاولة إذلال عرب الأحواز وكسر عزيمتهم، ولجأت القوات الفارسية من جديد إلى سياسة التهجير القسري؛ إذ قامت بترحيل حوالي 150 من عرب الأحواز إلى طهران بشكلٍ مُزرٍ؛ إذ أُجبِر هؤلاء على السير إلى طهران على الأقدام، وكان معظمهم من بني طرف، ومنهم العديد من النساء والأطفال والشيوخ، ولم يصل من هؤلاء إلى طهران سوى 40 فردًا فقط؛ إذ مات الباقون من جرَّاء الجوع والمرض وقسوة المناخ، وقام البعض بتجميع بعض الشهادات التاريخية ممن بقي من هؤلاء على قيد الحياة، حيث تحدَّث هؤلاء عما شاهَدُوه بأعينهم من مأساة السير على الأقدام إلى طهران: “كان من يعجز عن المسير تسحقه السيارات المصفَّحة للجيش الإيراني، أو يُترَك في العراء طُعمة للوحوش الكاسرة أو الموت جوعًا وعطشًا”.

الآليات الإيرانية دهست الأطفال والنساء والشيوخ من عرب بني طرف.

ويلخِّص علي نعمة الحلو هدف السلطات الفارسية من إحداث كل أنواع جرائم الحرب في أثناء قمع انتفاضة بني طرف الثانية قائلًا: “لقد كانت تلك الحادثة مأساة لم تعرفها الشعوب، مثَّلَتها إيران على عرب الإقليم بكل قسوة وحقد، كل ذلك تفعله إيران حتى تزرع الرعب في النفوس، وتحجر المشاعر، فلا مطالب بحقه وحريته، فمَن طالَب بحقه فمصيره مصير شهداء بني طرف”.

  1. عامر الدليمي، الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي (عمَّان: دار الأكاديميون للنشر، 2020).

 

  1. عايدة العلي، الأحواز عربستان إمارة في دائرة النسيان (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 2016).

 

  1. علي الحلو، الأحواز ثوراتها وتنظيماتها 1914-1966م (النجف: مطبعة الغري الحديثة، 1970).

 

  1. وزارة الإعلام العراقية، تاريخ عربستان والوضع الراهن في إيران (بغداد: مطابع وزارة الإعلام، 1971).