ما بعد إسقاط الدولة السعودية الأولى.. محاولة لمسح التاريخ وطمس الهوية

ما بعد إسقاط الدولة السعودية الأولى.. محاولة لمسح التاريخ وطمس الهوية

من خلال المقالات العلمية السابقة وقفنا على إصرار العثمانيين واستماتتهم في مواجهة الدولة السعودية الأولى، من أجل وضع حد لأقوى مشروع سياسي نافس الآستانة وسحب شرعيتها الدينية في المنطقة ومن جهة أخرى حقق مقومات المشروعية السياسية، في ظل المصداقية التي راكمها حكام الدرعية من خلال جهادهم المرير من أجل تحرير الرقعة العربية من الاستعمار العثماني، إذ رسمت جيوش الدرعية ملاحم خالدة دوّنها التاريخ بمداد من الفخر والشرف والعزة والتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحرير الأرض والدفاع عن العرض ومقاومة محاولات التتريك وطمس الهوية ومسح الحضارة.

ولعل الطريقة التي أبيدت بها الدرعية تقطع بأن الهدف كان يتجاوز مسألة الحسم العسكري باعتباره هدفًا استراتيجيًّا محددًا للحرب، إلى الرهان للقضاء على الوعي الديني والعروبي الذي انتشر في المنطقة، والذي كان من مظاهره ترسيخ عقيدة الجهاد ضد المحتل، وهي العقيدة التي ألهمت الشعوب العربية في المنطقة، حيث يجمع المؤرخون بأن تأسيس الدولة السعودية الأولى كان يعد ميلادًا لأقوى مقاومة للهيمنة والغطرسة العثمانية، وهي المقاومة التي ستُرَاكم مجموعةً من المحاولات تُوِّجت باستقلال جميع الشعوب العربية عن الآستانة، وطي صفحة حالكة من صفحات تاريخ العثمانيين الدموي.

في هذا السياق، نجحت الدولة السعودية الأولى في تكريس القناعة لدى العثمانيين بأن العرب يرفضون جميع أشكال الاستعمار والوصاية السياسية حتى لو كانت باسم الدين والخلافة الإسلامية، خاصةً أن المستعمر ظل يفتقد المقدمات الشرعية والمشروعية السياسية لقيادة العالم العربي والإسلامي.

هذا المعُطى جسدته الوثائق العثمانية وشهادات المستشرقين التي دُوِّنت في آلاف الكتب والمراجع التي تقطع جميعها برفض الإنسان العربي لمنطق الأمر الواقع على اعتبار أن الاستعمار العثماني كان “قوسًا تاريخيًّا” مجردًا في انتظار إنتاج الشروط الذاتية والموضوعية لإغلاقه.

على هذا المستوى من التحليل، فإن افتقاد العثمانيين شرعية الحكم واكبه افتقارهم إلى “شرعية الإنجاز” من خلال انعدام أي آثار تنم عن الرغبة في تطوير العمران والاستثمار في العنصر البشري من أجل رفع المؤشرات التنموية في منطقة الجزيرة العربية. ولعل ما يفسر هذا الواقع انحصار دور الجزيرة العربية، في علاقتها بالأجندة العثمانية، باستغلال الحرمين الشريفين من أجل احتكار الشرعية الدينية باعتبارها مقدمةً لحكم العالم الإسلامي، وأيضا استغلال الموانئ العربية ومقدرات المنطقة من أجل دعم الآستانة في حروبها على الجبهة الأوربية.

وأمام الانتشار السريع لنفوذ الدولة السعودية الأولى، لجأ العثمانيون إلى تبني تكتيكات للمواجهة ترتكز على سلاحين أساسيين أحدهما عقدي والآخر مادي، حيث تجسد الأول في اتهام حكام الدرعية بالخروج على الخلافة العثمانية مع ما يستتبع هذه الفتوى من آثار على مستوى أحكام القتال والدماء، ومن جهة أخرى تحركوا للقضاء على دولة آل سعود من خلال تكتيك ضرب العرب بعضهم ببعض، وانتهوا إلى ضرورة تسليط محمد علي باشا، الذي كانوا يعتبرونه انفصاليًّا، على حكام الدرعية الذين حاولوا أن يلصقوا بهم تهمة الخروج على الدولة العثمانية رغم غياب أي مظهر من مظاهر السيادة السياسية للعثمانيين على المنطقة التي كانت تعيش حالة من الاستقلالية التامة عن الباب العالي.

إن منطق إرهاب الدولة الذي فرضه العثمانيون على المنطقة يتجاوز بكثير ما يقوم به خوارج هذا الزمان من القاعدة وداعش وباقي التنظيمات التكفيرية التي خرجت من عباءة جماعة الإخوان الإرهابية.

وهنا نسجل إجماع المؤرخين على وحشية الآلة العسكرية العثمانية، ونحيل، في هذا الصدد، على ما كتبه المؤرخ المصري الجبرتي حين وصف حال الأسرى الذين قُبض عليهم من نساء وبنات وغلمان، فيقول: “أُنزلوا عند الهمايون (مجلس وزراء الدولة العثمانية) وطفقوا يبيعونهم على من يشتريهم مع أنهم مسلمون أحرار”.

إن شهادة الجبرتي تعززها شهادة لا تقل أهمية عنها يرويها المؤرخ السويسري بوركهارت الذي دوَّن مشاهد من الرحلة التي رافق من خلالها جيوش محمد علي إلى مصر، حيث قال ما نصه: “قتلوا ونهبوا في الطريق غالبية الوهابيين، وأرسلت إلى القاهرة 4 آلاف أُذُن اقتطعت من الوهابيين وأعدت لإرسالها إلى الآستانة”. وعلى هذا النحو صارت باقي الشهادات التي وثقت التاريخ الدموي للعثمانيين في الجزيرة العربية.

وبذلك فإن سلاطين آل عثمان وواليهم محمد علي استباحوا الجزيرة العربية، ولم يسلم من شرهم عدوٌ ولا حليفٌ؛ إذ مثَّلوا بالجميع ولم يراعوا لعالم حرمة، ولا لشيخ وقار، حتى إنهم كانوا يجبرون بعض الشيوخ على الاستماع إلى الأغاني الماجنة قبل أن يُعدَموا بدم بارد، وهو ما حصل مع الشيخ سليمان بن عبد الله حفيد محمد بن عبد الوهاب، كما يروي ذلك المؤرخ الروسي ألكسي فاسيليف في كتابه “تاريخ العربية السعودية”.

لقد ظلت مدن شمر والقصيم والدلم والدرعية شاهدة على مجازر العثمانيين الذين لم يقيموا للدين ولا للإنسانية وزنًا واستباحوا دماء الحلفاء وأموالهم قبل الأعداء، ولم يكن يردعهم أي التزام ديني، أو قانون أخلاقي، وأدخلوا المنطقة في حالة من الفوضى التي تجاوزت في همجيتها ولم تنضبط حتى لقوانين الغاب.

وهنا نجد المؤرخ الإنجليزي سادلير يصف دموية جيوش إبراهيم باشا باعتبارها “سلسلة من أبشع القساوات الوحشية التي اقْتُرفت، خلافًا لأكثر الالتزامات قدسية، ففي بعض الحالات اغتنى من نهب القبائل نفسها التي أسهمت بقسط في انتصاراته، وفي حالات أخرى ينتزع ثروات أعدائه المغلوبين أنفسهم الذين تمكنوا في وقت ما من تحاشي غضبه”.

إن مذابح العثمانيين في المنطقة العربية نتج عنها ردات فعل عكسية دفعت الأسر والقبائل العربية إلى إعادة ترميم صفوفها وتجميع أدواتها العسكرية وترسانتها البشرية من أجل الإعداد للنفير العام ضد العدو الوجودي للعرب، وإعلان الجهاد لطرده من الجزيرة العربية.