بعد الحرب العالمية الأولى
كرر أتاتورك سيناريو سليم الأول في خديعة الشعب الكُردي
عاش معظم الكرد داخل ولايات الدولة العثمانية، وجزءٌ منهم عاش خارج حدود العثمانيين في ظل أنظمة سياسية فأكثرهم كان في إيران. ووفقًا للإحصاءات العثمانية تُقدّر بعض المراجع التركية أعداد الكرد داخل الولايات العثمانية في عام (1844) بحوالي مليون نسمة من إجمالي 35 مليون نسمة من سكان الدولة العثمانية في ولاياتها المختلفة.
لعب الكرد دورًا مهمًّا طيلة التاريخ العثماني، بدأ بتحالف الإمارات الكردية مع سليم الأول ضد الشاه إسماعيل الصفوي. بعد ذلك كشر العثمانيون عن أنيابهم في توظيف القومية الكردية لمصلحتهم، ومحاولة تدجينها وصهرها في الثقافة التركية، مما أدى إلى الصدام المباشر بين الإمارات الكردية والجيش العثماني، وبناءً عليه فقدت الإمارات الكردية استقلالها المباشر الذي كانت تتمتع به ابتداءً في حدود العثمانيين، ودخلت في تبعية مباشرة تحت ظل إسطبنول، آنذاك بدأت صفحات من العداء والصدام بين الكرد والأتراك.
صفحة أخرى جديدة من تاريخ العلاقات الكردية – التركية، بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها؛ إذ بدأت جيوش الحلفاء في غزو ولايات الدولة العثمانية بل وقلب الدولة نفسها – إسطنبول- وبات الأمر وكأن هؤلاء الحلفاء ينوون اقتسام الأراضي التركية فيما بينهم. وزاد الأمر سوءًا قبول الحكومة العثمانية في إسطنبول لمعاهدة سيفر التي أُبرِمَت في 10 أغسطس (1920)، والتي جاءت في غير صالح الأتراك. من هنا ظهرت شخصية مصطفى كمال أتاتورك، الذي نجح في تشكيل حكومة وطنية في الأناضول، واستطاع تجميع ما تبقى من الجيش العثماني تحت يديه، إذ رفض أتاتورك معاهدة سيفر، وعقد العزم على مقاومة جيوش الحلفاء التي غزت الأراضي التركية.
ناضل الأكراد بجانب الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وردوا لهم الجميل بالقمع والتهميش والإعدامات.
وكما فعل السلطان سليم الأول عندما طلب التحالف مع الكرد أثناء صراعه مع الصفويين، طلب أتاتورك المساعدة والتحالف مع الكرد للوقوف في وجه الغزو الأوروبي المسيحي، ونصرة الإسلام والخلافة. ووعد أتاتورك الكرد بما يتوافق مع طموحاتهم إذا وقفوا بجانبه ضد الغزاة حتى النصر، وبالفعل وافق معظم زعماء الكرد على التحالف مع أتاتورك ضد الجيوش الأجنبية، وكان دافعهم تصديق أتاتورك، وانتقامًا من الجيش الإنجليزي الذي احتل كردستان الجنوبية -أي كردستان العراق-، حيث احتلت بريطانيا العراق في الحرب العالمية الأولى.
تذكر المصادر الكردية أن أتاتورك تحدث مع زعماء الكرد بأن الأتراك والكرد هم أصحاب البلاد الأصليون، وأن النصر سيأتي على يديهم، وأنه بعد النصر سيعترف أتاتورك باستقلال كردستان، وأن الحقوق التي سيمنحها لهم ستكون أكثر بكثير مما نصت عليه معاهدة سيفر، التي لم يعترف بها أتاتورك.
وعلى ذلك انضم الكرد إلى الجيش التركي بقيادة أتاتورك، وساعد على ذلك ارتفاع عدد نواب الشعب من الكرد في المجلس الوطني الذي شكله أتاتورك في أنقرة، بعد سقوط إسطنبول في يد جيوش الحلفاء. وفي تلك الأثناء كان مؤتمر الصلح في باريس ينظر في أوضاع الولايات العثمانية، والشعوب الخاضعة لها. وكان هناك ممثل للشعب الكردي في هذا المؤتمر هو الجنرال شريف باشا الكردي، الذي كان بمنزلة رئيس الوفد الكردي إلى المؤتمر. لكن وقوف الكرد إلى جانب أتاتورك والجيش التركي في الأناضول، قلب الموازين؛ إذ أدرك الحلفاء أن الكرد ليسوا معهم.
وتفيد المصادر التركية أن كمال أتاتورك نجح في استمالة النواب الكرد إلى جانبه، بل دفع ممثل الكرد في مؤتمر لوزان، عصمت باشا الكردي، إلى المؤتمر الذي انعقد بعد فشل معاهدة سيفر، حيث كان الأخير في الوقت نفسه ممثلاً لتركيا، وقتها قال الإعلان التاريخي الشهير: “إن تركيا هي للشعبين التركي والكردي المتساويين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قومية متساوية”. وأدى ذلك الأمر إلى تخلي أعضاء مؤتمر لوزان عن فكرة استقلال كردستان، والقبول بفكرة تركيا كدولة ذات شعبين: تركي وكردي. وهكذا لم تلتفت معاهدة لوزان إلى الحقوق القومية واستقلال كردستان الذي نصت عليه معاهدة سيفر التي لم يُكتَب لها البقاء.
بينما تشير المصادر الكردية إلى أن حكومة أتاتورك بعد معاهدة لوزان لم تحترم كون تركيا بلدا للشعبين: الشعب التركي والشعب الكردي، ولجأت إلى سياسة التتريك، وإضعاف الطابع الكردي، حتى أنها أطلقت على الكرد لفظ “أتراك الجبال”. وأثار هذا الأمر بعض القوى القومية الكردية، وتفاقم الأمر مع إعلان كمال أتاتورك الدعوة إلى التغريب في المجتمع التركي؛ إذ شعرت بعض التيارات الكردية أن رابطة الدين التي كانت تربط بين الكرد والترك، تخلى عنها أتاتورك بسهولة، حيث ارتمى في أحضان أوربا رافعًا شعار التغريب.
وقتها تزَعَّم أحد كبار رجال الدين الكرد، الثورة على الوجود التركي، وهو الشيخ سعيد الكردي، وبدأت ثورته في (1925م)، وشملت هذه الثورة المقاطعات الشرقية من تركيا. وكان الشيخ سعيد من المتصوفة، فهو رئيس خلفاء النقشبندية الدراويش.
وفي أنقرة بات واضحًا أن التمرد الكردي ينتشر في شرق البلاد بسرعة، وأصبح يشكل خطرًا كبيرًا على الحكومة التركية. وهنا لجأت الحكومة التركية إلى إعلان حالة الطوارئ؛ إذ صدر قانون لحفظ النظام العام، والذي يمنح سلطات وصلاحيات غير عادية للحكومة التركية، كما أنشئت محاكم الاستقلال في شرق البلاد وأيضًا في أنقرة، فمُنحت هذه المحاكم صلاحية إصدار أحكام الإعدام على من أطلقت عليهم لقب “المتمردون”.
كما أرسلت أعدادًا كبيرة من القوات التركية إلى شرق البلاد؛ ونجحت هذه القوات في القضاء على هذه الثورة، وألقت القبض على الشيخ سعيد الكردي، وأصدرت محكمة الاستقلال في ديار بكر حكمها عليه بالإعدام، إلى جانب 46 شخصًا من أتباعه في 29 يونيو (1925م)، وتم تنفيذ الحكم في اليوم التالي.
ولما كان التمرد الكردي قد بدأ على يد الدراويش المتصوفة، وكان زعيمهم من النقشبندية، تطورت مواقف أتاتورك ضد المتصوفة الدراويش؛ إذ أغلق كل مجالسهم الخاصة، وحل جمعياتهم ومنع اجتماعاتهم واحتفالاتهم.
ويرصد المؤرخ الأميركي برنارد لويس، تداعيات هذه الثورة، وقانون حفظ النظام على مجمل التاريخ المعاصر لتركيا قائلاً: “لقد منح قانون حفظ النظام العام -قانون الطوارئ- كمال أتاتورك السلطة القانونية للتعامل ليس فقط مع المتمردين في شرق البلاد، ولكن أيضًا مع المعارضين السياسيين في إسنطبول وأنقرة وغيرها”. وبعد التمرد الكردي تم الحظر على الحزب الجمهوري التقدمي، وفرضت الرقابة الصارمة على صحف المعارضة.
ويشير الصحفي المصري عماد الدين حسين إلى ظاهرة مهمة في تاريخ الكرد قائلاً: “لا أصدقاء لنا إلا الجبال والريح”. مقولة يرددها الأكراد كثيرًا، لكن غالبية قادتهم لا يعملون بها. هذه المقولة صحيحة إلى حدٍ كبير بالنظر إلى الرهانات الخاطئة والخيبات الكبرى للقادة الأكراد وآخرهم العدوان التركي عليهم في سوريا، وبيع أمريكا لهم مجانًا”.
الخذلان التركي للأكراد جعلهم يؤمنون أكثر بمقولتهم الشهيرة "لا أصدقاء لنا إلا الجبال والريح".
- أكمل الدين إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون، 1999).
- برنارد لويس: ظهور تركيا الحديثة، ترجمة: قاسم عبده قاسم وسامية محمد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2006).
- عماد الدين حسين: الأكراد… مائة عام من الرهانات الخاسرة، جريدة الشروق المصرية، 29 أكتوبر (2019).