الحرملك:

صناعة القرار السياسي داخل الغرف المغلقة

كانت النساء ولا تزال جزء لا يتجزأ من منظومة صناعة القرار السياسي، بل وكانت سببا في إشعال حروب وإطفاء أخرى. وظلت المرأة تمتلك “دلالا” وقدرة قوية على التأثير على السلطة والسلطان. وسواء في العهد القديم أو الحديث نجد بأن هناك تأثيرا “للجنس اللطيف” داخل المطبخ السياسي، بل وارتبط حكم مجموعة من الدول العربية والغربية بشخصيات نسائية بصمت على مسار سياسي بعضه ناجح وبعضه تسبب في إسقاط دول وإنهاء الحياة السياسية لأسر حاكمة.

ورغم أن القصور السلطانية، في الأنظمة الأسرية المغلقة، ظلت بعيدا عن التناول الإعلامي والشعبي، إلا أن الكتابات التي دونها من كان لهم حظ دخولها ومخالطة أهلها جعلتنا نأخذ صورة على أنماط العيش وعلاقات الحكم داخل هذه الفضاءات. وهو ما ينطبق على القصور السلطانية العثمانية، حيث كان لبعض النساء السهم المُعلى في توجيه ناصية القرار السياسي للدولة العثمانية.

وإذا كان التحفظ وهالة الحكم و “التباعد” هو ما ميز تعامل سلاطين الدولة العثمانية مع محيط القصر الخارجي، فإن العلاقات داخل البلاط السلطاني تميزت ببعض المكاشفة والوضوح، وهو ما دفع البعض إلى أن يطلق عليها لقب “المطابخ السياسية” حيث تسير الأمور داخلها بطريقة معروفة ومكشوفة، فيما تبقى تفاصيله غامضة على العالم الخارجي.

وحيث يمكن اعتبار إقامة الحريم “الحرملك” جزء من بنية الدولة والتقاليد السلطانية العثمانية، فقد نالت من السرية ومن التشدد في تنظيم السلوك الداخلي للمقيمين فيه ما تجاوز بكثير تلك السرية التي حظيت بها الاصطدامات والحوادث التي وقعت حتى بين الأمراء العثمانيين أنفسهم. هذا المعطى يفسر بشكل كبير شح المعلومات التي تناولت الحياة اليومية داخل الحرملك والقوانين التي كانت تحكم العلاقات الإنسانية والطبقية داخله. ولعلها القاعدة السائدة في جميع القصور الملكية، خاصة في الدول الإسلامية “الحقيقية” والتي ترتقي فيها الأسرة إلى مرتبة من القداسة لا يمكن انتهاك حرمتها.

في هذا الصدد، تتناول كتب التاريخ الدور المهم (ولا نقول المركزي) للحرملك في تاريخ الدولة العثمانية، وسياقات تأسيسه وتنظيمه، خاصة على يدي محمد “الفاتح” . وحول السياقات التاريخية التي واكبت تأسيس هذا الفضاء وهيكلته، ذهبت صحيفة “سوزجو” التركية إلى القول بأن السلطان محمد الفاتح بادر، بعد إخضاع القسطنطينية، إلى تأسيس مدرسة للحريم وموظفي الدولة، وهو ما يفيد بأن الحرملك لم يكن فضاءا للتسلية وإنما كان مدرسة مثل الأندرون.

ويأتي تأسيس الحرملك لاعتبارات أمنية صرفة للحيلولة دون إفشاء أسرار الدولة، خاصة وأن بعض نساء الحرملك، اللاتي اعتنقن الدين الإسلامي، تبين أنهن كن يحتفظن بعلاقاتهن مع بلدان المنشأ، وهو ما جعلهن في وضع يسمح لهن بالتجسس على المطبخ الداخلي للدولة العثمانية. هذا التوجس الأمني دفع آل عثمان إلى تأسيس الحرملك لتفادي تسرُّب أخبار السلطنة إلى الخارج.

لقد تميز الحرملك بتراتبية طبقية جد صارمة على رأسها “الأسرة السلطانية” والتي كانت تعتبر مركز الدائرة بالنسبة إلى باقي الهيئات والطوائف التي تعمل داخله، حيث كان يتم تخصيص عدة أجنحة في القصر لوالدة السلطان الحاكم، بالإضافة إلى زوجات السلطان. هذا الفئة أو الطبقة من النساء كان يطلق عليها في الأعراف السلطانية “سيدات الفئة الأولى”.

ومباشرة بعد سيدات الفئة الأولى هناك طبقة بنات السلطان وأولاده ثم فئة الجواري “الحسناوات” اللاتي يعشن في القصر ويشتغلن مجموعة من الوظائف داخل الحرملك. كل هذه الفئات يعمل على خدمتهن جيش من الخصيان البيض والسود، هؤلاء بدورهم يخضعون لقوانين وضوابط صارمة تحت إشراف رؤساء أو أغوات الخصيان والذي يسهرون على خدمة نساء الحرملك.

إن القوانين التي ظلت تحدد طبيعة العلاقات الأفقية والعمودية داخل الحرملك كانت تخضع لبعض التغيرات حسب سياقات تطور الدولة العثمانية وحسب البنية السلوكية لسلاطين آل عثمان. وهنا نسجل بأن الترتيب الوظيفي الذي كان داخل الحرملك خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ليس هو نفسه خلال نهاية القرنين الثامن عشر والقرن التاسع عشر. ويمكن القول بأن هذا الاختلاف هَم فقط الجانب الوظيفي أما الجانب البروتوكولي وباقي العلاقات الطبقية والقوانين الزجرية فحافظت تقريبا على نفس الخط الذي تم اعتماده منذ البداية.

لقد كان الحرملك عبارة عن “مدينة محرمة” يُمنع دخوله أو حتى الاقتراب منه وحتى الجواري اللاتي كان يتم استقدامهن كانوا يلقبون بأسماء ثانية بغرض إحداث قطيعة مع هوياتهن السابقة ولتبدأ مغامراتهن داخل الحرملك ويبدأ تصنيفهن وظيفيا حسب أدائهن ومدى رضا السلطان عن عملهن أو بشكل أدق عن جسدهن. وفي حال مرت تسع سنوات على النساء اللاتي لم تثرن رغبة السلطان فإنهن يستطعن ترك القصر والزواج بعد إذن رسمي في الموضوع.

وحيث أن أي تنظيم حديدي مغلق يفترض سن مجموعة من القوانين الزجرية لضبط السلوك الداخلي للحرملك، فإن العقوبات كانت تختلف حسب نوع المخالفات وجسامة الأخطاء التي ترتكب من طرف الحريم أو الخصيان على السواء، حيث تبدأ العقوبات من التنبيه والنهي وقد تصل إلى الإعدام شنقا أو الإغراق في مياه البوسفور. وتخضع النساء داخل الحرملك إلى مراقبة صارمة من “آغا البنات” أو “آغا الحريم” الذي يعينه السلطان العثماني رأساً ولا يتلقى الأوامر إلا منه واستثناء من الصدر الأعظم.

إجمالا يمكن القول بأن الحياة داخل الحرملك كانت أبعد ما تكون عن حياة نساء يتمتعن داخل “دار السعادة” وإنما هي أقرب إلى حياة مجندات داخل ثكنة عسكرية عليهن احترام دستور الحرملك حتى في أبسط الأمور. ويكفي أن نشير إلى أن القاعدة العامة تقتضي ضرورة التواجد الدائم داخل أجنحة الحريم السلطاني، ومجرد التنزه داخل حدائق القصر كان يستلزم الحصول على إذن مسبق من السلطان شخصيا.