المُقَنَّع الخرساني 161هـ (778م)
قاد الحركة الثورية المناهضة للدولة العربية والإسلامية في عصر العباسيين
قبل البدء بالحديث عن هذه الحركة السرية التي ظهرت في العصر العباسي الأول لرجل يُدعَى المُقَنَّع الخراساني، الذي ادَّعى النبوة والألوهية، ونشر أفكاره الفاسدة والضالة في بلاد ما وراء النهر، والذي تأثَّر بالحركات السرية في بلاد فارس، عند استعراضنا لشخصية المُقَنَّع الذي نشأ في قرية من قرى مَرْو تسمى ” كازه كيمن دات”، كان يعمل في بداية حياته في غسيل الملابس التي تعرف بالقصارة، ثم اشتغل بالتعلُّم، وحصل على علوم من كل نوع، ولكنه تفوَّق في الشعوذة حتى أصبح مُبرَّزًا فيها، وعلوم أخرى كالطلسمات، وعلم النيرجات، وعُرف عنه في شبابه الذكاء الخارق، وقد سُمِّي بالمُقَنَّع؛ لاتخاذه قناعًا من ذهب، وقيل: بُرقُعًا من حرير لإخفاء قُبح وجهه، ووُصف بأنه كان أصلع وأعور وألكَن – أي لا يُجِيد الحديث بالعربية- قصير دميم الصفات، وزعم أتباعه أن سبب اتخاذه القناع كي يحجب بها الذات الإلهية عن العيون الدَّنِسة غير الجديرة بالنظر إليه.
ادَّعى الألوهية ولم يكتفِ بادِّعاء النبوَّة إيغالًا في محاولة الكفر بكل ما هو إسلامي عربي.
برزت علاقة المُقَنَّع بأبي مسلم الخراساني بدايةً عندما عمل عنده كقائد من قواد خراسان المشهورين، ثم صار بعدها وزيرًا لعبد الجبار الأزدي، وبعد ذلك ادَّعى النبوة.
ولعل ما حدث بعد مقتل أبي مسلم من احتضان الثوار الفرس لشخصيات كالمُقَنَّع وسنباذ وأستاذ سيس، هو ما يؤكد عنصرية أبي مسلم الفارسية؛ لذا ثار الفرس لهذه النزعة العنصرية التي كانت مترسِّبة في نفوسهم، بل إنهم كانوا يَعُدُّون أبا مسلم أفضل شخصية فارسية منذ مقتل يزدجر آخر ملوك الساسانيين.
ومما لا شك فيه أن الدافع الرئيس لظهور حركة المُقَنَّع سنة 161هـ/778م هو كراهية الفرس بوجهٍ خاص للسلطان العربي والإسلام، فأهدافها من الناحية السياسية والدينية، ونستطيع أن نقول: حركة المُقَنَّع كانت من الناحية السياسية استمرارًا لحركتَي سنباذ والراوندية، وذلك من خلال التركيز على شخصية أبي مسلم الخراساني، وقد وصلت شدة التركيز إلى حد الوصول بالزعيم الخراساني إلى مرتبة الألوهية، وما واكَبَ ذلك من فكرة التناسخ وهدم أركان الدين الإسلامي وإحياء تعاليم مزدك، كل هذا تأكيد على أن دعوة المُقَنَّع كانت خروجًا صريحًا على الدين الإسلامي، وهو نفس الاتجاه الذي سار فيه من قبل كلٌّ من سنباذ والراوندية، أما تفضيل المُقَنَّع لأبي مسلم على النبي صلى وسلم عليه؛ فإنه يحمل في طياته دعوة إلى إحياء العنصرية الفارسية ممثَّلة بالزعيم أبي مسلم الخراساني، وكذلك إحياء للعقائد الباطنية والمزدكية الملحدة، وفكرة تناسخ الأرواح وإحياء الأفكار الضالَّة، التي كان يزخر بها المجتمع الفارسي القديم.
ومن ذلك أن المُقَنَّع قد زعم لأتباعه أنه الإله، حيث قال لهم: “إن الله خلق آدم، فتحوَّل في صورته، ثم في صورة نوح، حتى وصل إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحوَّل إليه أي المُقَنَّع”، فكان يرسل برسائله إلى الناس يدعوهم إلى خُبث معتقَدِه وفكره الشاذ بهذا النص، حيث يقول فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم من هاشم بن حكيم سيد السادات إلى فلان بن فلان، الحمد الله الذي لا إله إلا هو، إله آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد وأبي مسلم، ثم إن للمُقَنَّع القدرة والسلطان والعزة والبرهان، اتبِعوني، واعلموا أن المُلك لي، ولي العزة والربوبية، ولا إله غيري، وكل مَن تَبِعني له الجنة، وكل ما لا يتبعني له النار”.
ومن ضلاله البهيم أنه أسقط عن أتباعه الصلاة والصيام والاغتسال من الجنابة، وسائر العبادات كالزكاة والحج، بل أباح لهم المحرمات، كالزنا والسرقة والخمر، وتحليل المرأة لكل رجل، حتى أباح تعاليم مزدك، واكتفى من الناس بأن يسجدوا له أينما كانوا، فقد كان أتباعه يسجدون له من دون الله، فالذي يظهر من تلك التعاليم والمعتقدات التي نبعت من الفكر المتعنصر للفرس ضد العرب والمسلمين هدفها حرف أتباعه عن جادة الحق، وكَسْبُهم من خلال تحليل الحرام، واللعب على العواطف والمشاعر لتحقيق أكثر قَدْر ممكن من الأتباع، لتتحوَّل فيما بعد من حركة دينية إلى حركة سياسية مناهضة للدولة الإسلامية.
- زاهية قدورة، الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1979).
- عبد العزيز سالم، دراسات في تاريخ العرب العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).
- علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطابع الدجوي، 1979).
- محمد الملحم، “حركة المُقَنَّع الخراساني.. فكرها ونشاطها السياسي والعسكري 161-169ه”، مجلة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد 28، الرياض (1420ه).