الامتداد العربي لإقليم "عربستان"
كارستن نيبور: "لقد أخطأ جُغْرَافِيُّونَا حين صوروا لنا جزءًا من الجزيرة العربية خاضعًا لحكم الفرس"
يُعدّ إقليم الأحواز العربي امتدادًا للعراق شرقًا في المناطق بين جبال زاجروس والبختارية، ومنفذ طبيعي وممر استراتيجي موصل إلى العراق، لذا حرص كل غازٍ من الشرق على احتلاله ليكون قاعدة للهجوم على العراق -متى ما حانت الفرصة-، وهو ما فعله قائد جيش المأمون طاهر بن الحسن، كما فعله يعقوب بن الليث الصفار، أيضًا استطاع أحمد بن بويه السيطرة على العراق عبر الأحواز، وتكرر ذلك كثيرًا في عصر السيطرة البويهية على الدولة العباسية.
وبناءً على ذلك فإن الأحواز بمنزلة خاصرة العالم العربي في الشرق، لذا حرصت الدولة العباسية على تعزيزها والحفاظ عليها، وفي الوقت نفسه حرص أعداؤها على التمركز فيها والتحضير لأي غزو أو محاولة للسيطرة على العراق وعاصمته بغداد.
وسميت المنطقة الواقعة على غرب سواحل الخليج العربي بالحوزة؛ لأنها بقيت منذ ما قبل الفتوحات عربية خالصة في حوزة القبائل العربية التي نزحت من سواحل الجزيرة العربية إلى السواحل المقابلة خلال رحلاتها التجارية وامتلكتها قبل 1500 عام. يقول الرحالة الألماني “كارستن نيبور” الذي جاب الجزيرة العربية عام (1762) عن عرب الأحواز: “لا أستطيع أن أمر بصمت مماثل بالمستعمرات – العربية- الأكثر أهمية، التي رغم كونها منشأة خارج حدود الجزيرة العربية، هي أقرب إليها، أعني العرب القاطنين بالساحل الجنوبي من بلاد الفرس، المتحالفين على الغالب مع الشيوخ المجاورين، أو الخاضعين لهم. وتتفق ظروف مختلفة لتدل على أن هذه القبائل استقرت على الخليج قبل فتوحات الخلفاء، وقد حافظت دومًا على استقلالها. ومن المضحك أن يصور جغرافيونا جزءًا من بلاد العرب كأنه خاضع لحكم ملوك الفرس، بينما لم يتمكن هؤلاء الملوك قط من أن يكونوا سادة ساحل البحر في بلادهم الخاصة. لكنهم تحملوا -صابرين على مضض- أن يبقى هذا الساحل ملكاً للعرب”.
وقال كذلك: “لقد أخطأ جغرافيونا -على ما أعتقد- حين صوروا لنا جزءًا من الجزيرة العربية خاضعًا لحكم الفرس؛ لأن العرب هم الذين يمتلكون -خلافاً لذلك- جميع السواحل البحرية للإمبراطورية الفارسية: من مصب الفرات إلى مصب الإندوس (في الهند) على وجه التقريب. صحيح أن المستعمرات الواقعة على السواحل الفارسية لا تخص الجزيرة العربية ذاتها، ولكن بالنظر إلى أنها مستقلة عن بلاد الفرس، ولأن لسان لأهلها لسان العرب وعاداتهم؛ فقد عنيت بإيراد نبذة موجزة عنهم. ويستحيل تحديد الوقت الذي أنشأ فيه العرب هذه المستعمرات على الساحل. وقد جاء في السير القديمة أنهم أنشأوها منذ عصور سلفت. وإذا استعنا باللمحات القليلة التي وردت في التاريخ القديم، أمكن التخمين بأن هذه المستعمرات العربية نشأت في عهد أول ملوك الفرس”.
قديمًا عرف إقليم الأحواز باسم (عيلام)، وهي تسمية جاءت عن طريق السومريين والأكاديين. وقد خضع للإمبراطورية الأكادية. وخضعت عيلام بعد ذلك إلى حكم الكوتيين، ثم خضعت للمملكة البابلية في عهد حمورابي، وللمملكة الآشورية، وحينما قضى الكلدانيون والميديون على المملكة الآشورية، أصبحت تحت سيطرتهم، إلى أن سيطر عليها الفرس الأخمينيون سنة (539 ق.م) وأصبحت السوس عاصمة الإقليم. وعلى الرغم من تبعية الأحواز للفرس، بقي إقليمها يتمتع باستقلاله الذاتي، وبقي سكانه يستعملون لغتهم السريانية ذات الصلة القوية بالعربية، كما لم يستطع الأخمينيون فرض ديانتهم الزرادشتية على سكانه.
لم يسيطر الفرس قديمًا على الأحواز إلا في عصر الدولة الإخمينية.
التحرير العربي للأحواز من الفرس:
يعود تاريخ الفتوحات العربية التي شُنَّت على الساسانيين بهدف استعادة الأحواز إلى أيام الخلافة الإسلامية، وارتبط تحريرها بتحرير البصرة، إذ كانت قبيلة بكر ابن وائل التي تستوطن في (الأبلة)، تشن غارات على الأطراف الغربية للإمبراطورية الساسانية.
ومن أبرز القادة العرب في تلك المعارك كان قطبة بن قتادة، الذي أرسل إليه عمر بن الخطاب فور توليه الخلافة مؤازرة بقيادة شريح بن عامر، الذي قُتل في إحدى معاركه بالأحواز، ثم أرسل إليه قوة كبرى بقيادة عتبة بن غزوان الذي استقر في البصرة، ثم بدأ تدفق هجرات القبائل من تميم وبكر وقبائل الحجاز الذين شكلوا الجيش الذي حرر الأحواز عبر معارك متتالية.
وبعد انتصار العرب في معركة القادسية فتح أبو موسى الأشعري الأحواز، وبقي الإقليم منذ عام (637) إلى (1258) تحت حكم العرب، تابعاً لولاية البصرة، إلى أيام الغزو المغولي. ثم نشأت فيه الدولة المشعشعية العربية (1436-1724)، واعترفت بها الدولتان الصفوية والعثمانية وباستقلالها، ثم نشأت بعدها الدولة الكعبية (1724-1925)، وحافظت على استقلالها كذلك.
حافظت الأحواز على عروبتها، وبقيت إداريًّا تحت لواء مدينة البصرة العراقية فترات عديدة، وقُسِّمت إلى ست مناطق تولى كل منطقة عامل تابع للدولة العربية (أموية وعباسية). ولفترة طويلة بقيت الأحواز قاعدةً للتنافس على حكم بغداد، فهي الخزان السكاني العربي، والممر الطبيعي للعراق باتجاه السواحل، بل شهدت المعركة الحاسمة بين أبناء الرشيد الأمين والمأمون عام (812)، وقد أسفرت نتائجها -فيما بعد- عن مقتل الأمين وانتصار المأمون.
موقع الأحواز الاستراتيجي بتوسطه بين الهند والصين شرقًا، وبين سواحل الجزيرة العربية غربًا، وامتداده إلى العراق شمالاً؛ أكسبه ذلك أهميةً بالغة، وجعل له دورًا اقـتصاديًّا في المنـطقة والعالم، فالإقليم نقطة اتصال رئيسة بين الشرق الأدنى والأقصى، كذلك يعدُّ جسرًا عربيًّا داخل آسيا.
كما أن الأحواز خزان ثروات تقتات عليه إيران الفارسية اليوم، وتخشى انفصاله أو انقطاع سيطرتها عليه؛ وذلك لثراء الإقليم بالمواد الخام والإمكانات الزراعية والسمكية الضخمة، وتعاظمت مكانته بعدما اكتُشِفَ فيه النفط والغاز في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، والذي عثر عليه أول مرة عام (1908) في منطقة مسجد سليمان، وهي إحدى مدن الأحـواز، الواقـعة على بعـد 150 كم من رأس الخـليـج العـربي، وقـد مُدَّت أنابيب النفـط في الأحـواز (عربستان) عام (1912) من المناطق النفـطية فـيها إلى ميناء عـبدان، لنـقـل الزيت الخام منها إلى الخارج بواسطة رصيف للبواخـر أنشئ لهذه الغاية، كما بُنِيَت فيه مصفاة لتكرير النفـط، وتحوي حقـول الأحـواز كمية ضخمة من البترول والغاز.
الفرس يقهرون عروبة الأحواز:
يكشف كتاب الأحواز لأحمد المظفر؛ أن الفرس أطلقوا على الأحواز أسماءً مختلفة، بقصد محو عروبته، مثل (خوزستان) التي تعني بلاد القلاع والحصون، إلا أنه وفي عهد الشاه إسماعيل الصفوي استعاد الإقليم مسماه العربي حسب اللفظ الفارسي وسمي (عربستان)، ويعني إقليم العرب، وهذا يدل على كثافة الوجود العربي وأصالته في الأرض.
ويبين المؤلف أن منطقة الأحواز تقع -بحسب التقسيمات الجغرافية القديمة- بين نهر كارون ونهر طاب حتى مدينة ميسان، وتعرضت حدودها للتغيير والتبديل، تبعاً للتطورات الإدارية والتنظيمات الجديدة في كل من البصرة وواسط، التي نجمت عن توسع الدولة العربية الحديثة، وظهور تنظيمات إدارية لها علاقة بنظام الجباية.
ومن المدن المهمة في الإقليم (الأحواز)، وقد غيَّر الفرس اسمها -فيما بعد- باسم فارسي هو (هرموز شهر)، وتقع في مكان متوسط بين البصرة من جهة، وأقاليم الأطراف الجنوبية للهضبة الإيرانية من جهة أخرى. إضافةً إلى مدن السوس القديمة جدًا، و(تستُر) و(جند يسابور) و(رامهرمز) و(متوث) وغيرها الكثير.
يشير الباحث التاريخي أحمد المظفر إلى أن أحد ملوك الساسانيين قبل الإسلام؛ قام بتهجير بعض القبائل العربية من تغلب وعبدالقيس وبكر، وفرقهم في أقاليم توج وكرمان والأحواز، بهدف الحد من سلطانهم ونشاطهم البحري والتجاري في مياه الخليج العربي. أما الطريق الثاني لانتشار العرب في الأحواز فقد كان عن طريق الفتوحات الإسلامية، وبدأت عملية استقرار العرب في الإقليم منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- إبراهيم العبيدي، الأحواز… أرض عربية سليبة (بغداد: دار الحرية للطباعة، 1980).
- أحمد المظفر، الأحواز: منذ ظهور الإسلام إلى القرن الخامس الهجري (دمشق: دار الحصاد، 2021).
- حسن الجاف، موسوعة تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008).
- عبدالمسيح الأنطاكي، الرياض المزهرة بين الكويت والمحمرة (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2014).
- علي نعمة الحلو، الأحواز في أدوارها التاريخية (بغداد: دار البصر، 1967).