سيادة العرب في العصرين الأموي والعباسي دفعت الفرس إلى إثبات تَفَرُّدِ قوميتهم المزيف

إن الصراع هو السِمَةُ الثابتة في العلاقات العربية الفارسية، على اعتبار أن الفرس رَأَوا في القضاء على العرب مقدمة للقضاء على الثقافة، ومسحِ الهوية الإسلامية، ومن ثَمَّ التمكين للمعتقدات الفارسية، خاصة في بُعْدِها الزرادشتي. وإذا كانت المواجهات بين العرب والفرس تبقى إحدى مظاهر العداء الفارسي، فإن بداية العصر العباسي شهدت مواجهات من نوع خاص، بالنظر إلى التعايش الحَذِر بين العرب، أصحاب الشوكة، والفرس الخاضعين تَقِيَّةً لسلطان العرب.

في هذا السياق، وأمام حالة الوهن والضعف الفارسي، لجأ هؤلاء إلى تَبَنِّي تكتيكاتٍ جديدة في مواجهة العرب، وهي التكتيكات التي استمرت إلى يومنا هذا وأطلق عليها في أدبيات المواجهات العسكرية بـــ “الحرب بالوكالة”. وهنا يظهر بأن إيران الحالية لم تبتدع صناعة الأذرع العسكرية والحركات العميلة، وإنما هو تكتيك فارسي مُتوارث منذ العصر العباسي الأول، حين راهن الفرس على “الشعوبية” لضرب العرب ونسف الدولة العربية الإسلامية انطلاقًا من مركز ثِقَلِها.

وارتباطًا بالسياق التاريخي، يرى بعض المؤرخين بأن الشعوبية “حركة ثقافية حضارية مناهضة للعرب، كان العراق ذلك المسرح الذي ظهرت عليه…؛ لأنه كان مُلتقى العنصر العربي الغالب بالعنصر الفارسي المغلوب…، وبقيت مستترة طُوال العصر الأموي، حتى نجح العباسيون في إنشاء دولتهم، واستخدموا الموالي، واستعملوهم في المراكز الهامة…وتسلَّطت عليهم (الشعوبية) النزعة القومية، فقويت حركة الشعوبية بينهم، وتصاعد خطرها، إذ تحولت إلى ما يشبه المنظمات التي كان يشرف عليها، ويخطط لها، ويتعهَّدها ويساعدها رؤساء من الوزراء والأدباء والكتاب والشعراء من الموالي الفرس”.

ويمكن القول بأن سيادة العرق العربي في العصر الأموي والعباسي دفعت بقية “الشعوب” إلى محاولة إثبات الذات وإظهار التفرد القومي، وذلك بإعلان رفضهم لكل ما هو عربي ومن ثَمَّ “حاول أبناء الشعوب الأخرى أن يُثْبِتُوا للعرب هوياتهم ووجودهم، ويُبَيِّنُوا لهم أنهم ليسوا أفضل من سائر الأمم”.

وهنا لابد من التوضيح أن المسلمين العرب، باعتبارهم حَمَلَةَ الإسلام الأوائل إلى غيرهم، لم يكونوا لينتصروا للعِرْق، ذلك بأن معيار التَمَيُّزِ والنجاح والارتقاء في الإسلام ليس العرق أو اللسان أو اللون؛ وإنما التقوى والالتزام بثوابت النص الديني. ولذلك نُرجح أَنَّ تَغلُّبَ الهوى العرقي جعل الفرس والشعوبية يتأولان هذا البعد عند المسلمين الذين أرادوا صهر جميع العرقيات في بوتقة الإسلام الذي جاء ليقطع جميع منافذ التفرقة وعلى رأسها العرقية والقَبَلِيَّة والفِئَوية.

إن الأمانة التاريخية والاستقامة في التلقي والنقل تقتضيان الإشارة إلى أن الشعوبية انتشرت بين الأعراق غير الفارسية، ومن بينهم “النبط والقِبط، والأندلسيين، والزُّط من أهل السند، والزنج من أهل إفريقيا…، واجتمع هؤلاء على الشعوبيةُ رغم اختلاف أصولهم وأجناسهم، ومُفاخرتِهم (على العرب) واستطالتِهم عليهم، وحَطِّهم من شأنهم، وعدائِهم لهم. ولكن شيوع الشعوبية بين الأمم الأخرى لا يقلل من الدور الكبير الذي لعبه الموالي الفرس فيها، فهم أصل الداء وموطن البلاء”.

انتشرت الشعوبية بين مجموعة من الأعراق غير الفارسية، إلا أن الفرس ظلوا أصحاب الضبط والربط والتوجيه

ولعل أخطر ما ميز “الشعوبية” وما جعل الفرس يتبنون تكتيكاتها إلى اليوم (حركة المحرومين وغيرها) هي ركوبها على المطالب الاجتماعية، ومن ثَمَّ التحول إلى حركة سياسية تستهدف إسقاط رأس السلطة السياسية. وهي الاستراتيجية التي تَبَنَّتْها تنظيماتُ الإسلام السياسي، سواء المحسوبة منها على السُّنَّة أم الشِّيَعة. ولتفكيك هذه النقطة يقول المُنَظِّر الشيعي علي شريعتي: “وقد حملت الشعوبية في بداية ظهورها شعار (التسوية) أي مساواة العجم بالعرب…، ولكن بعد فترة تَحَوَّلت الحركة الشعوبية تدريجيًّا من حركة (تسوية) إلى حركة تفضيل، تدعو إلى تفضيل العجم على العرب، وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة”.

إن دراسة الحركة الشعوبية لَتُعَدُّ مدخلًا أساسيًّا لفهم الطفرات التي تعرفها المطالب الاجتماعية، عندما تكون مُنْطلقاتها عنصرية. وهنا يعتمد العرق الطارئ على تبني جبهة الدفاع عن المطالب الاجتماعية والدعوة إلى الحرية والمساواة وبقية الحقوق، وذلك بتوسيع القاعدة الماديَّة، ومن ثَمَّ العمل على تسميم الجماهير ودفعها إلى الانقلاب على رأس السلطة السياسية.

ادعاء الشعوبية الحيفَ والظلمَ مسوغات دفعت أصحابها إلى إعلان العداء للعرب، عداءٌ لا تدعمه القرائن التاريخية، إذ تقطع بأن الشعوبية تمتعوا بالمساواة المطلقة في عصر الدولة العباسية، واحتلوا أهم المناصب السياسية والاقتصادية حتى داخل البلاط العباسي. ولكن هذا الواقع الجديد لم يجعل حقدهم ضد العرب يتلاشى، بل “تآلَفَ غوغاؤُهم وزعماؤهم وأهل الرياسة والسياسة منهم، وتنامى شعورهم القومي تناميًا عظيمًا حتى تفاقم شرُّه، فإذا هم تزداد معاداتهم للعرب، وتشتد مناوأتهم لهم، حتى أخذوا يجهرون بها جهرًا”.

إن اختلاف مشارب الشعوبية واختلاف منابتهم ومطالبهم لم يمنع من تحالفهم على هدف واحد ؛ وهو معاداة كل ما هو عربي، ولو أدى ذلك إلى الانقلاب على سلطان أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

  1. بو ملحم علي، المناحي الفلسفية عند الجاحظ، ط2 (بيروت: دار الطباعة والنشر، 1988).

 

  1. حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل، 1984).

 

  1. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).

 

  1. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي (بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2002).

 

  1. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).