استمرارًا للمذابح بمباركة عثمانية

سنة (1723) تسبَّب والي جدة التركي بمجزرةٍ في مكة

   من يُمعِن النظر في قراءة تاريخ الحجاز خلال الاحتلال العثماني منذ القرن العاشر الهجري/ الخامس الميلادي؛ سيجد أن الولاة العثمانيين في الحجاز كان لهم دور كبير في إثارة الفتن بين الأشراف، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى مرحلة الاقتتال الدموي فيما بينهم، وذلك في محاولة بسط النفوذ والسيطرة على حساب أمن الحرم المكي وسكانه، فقد استغل بعض الولاة العثمانيين نفوذهم الإداري والسلطوي من خلال ما كان يمنح له من أوامر سلطانية يغلب فيها مصلحة فئة على أخرى، أو قد تكون لمصالح نفوذ شخصية.

لم يكن يَطِيب للعثمانيين أن يتركوا الولاة الصالحين في مناصبهم.

ولعل هذا الأمر من مساوئ الإدارة العثمانية في الحجاز من حيث ازدواجية السلطة بين سلطة محلية وسلطة أجنبية إشكاليتها وانعكاسها على الأوضاع فيه وتسليمها زمام الأمور حسب الأمزجة والرغبات على حساب السكان الحقيقيين.

ومن ذلك ما حدث سنة 1116ه (1704)، عندما حاول الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد عزل شريف مكة سعيد بن سعد بن زيد عن ولايته لمكة المكرمة من خلال التخادن مع الوزير سليمان باشا والي جدة، حيث استدعاه إلى جدة بحضور قاضي جدة وأعيانها، فقام سليمان باشا بإلباس الشريف عبد المحسن فروًا عظيمًا، وولَّاه شرافة مكة المكرمة، وجهَّزه بالعساكر والخيالة والسلاح والذخيرة، وأرسل معه نائبه “الكيخيا” ليترأَّس العساكر العثمانية.

وعندما علم الشريف سعيد بذلك الأمر أرسل خطابًا شديد اللهجة لسليمان باشا في جدة قال فيه: “بيدنا فتوى المفتي وحكم بموجبها قاضي الشرع بكفر من تجرَّأ على مَن ولَّاه السلطان على بلد إذا كان بيده أوامر سلطانية، وأنه لا يُعزل إلا بعزل السلطان له، وأنه قد جاءنا الخبر بعزلك ومحاسبتك، فكيف لك بالعزل والتولية مع أنك معزول عن منصبك؟!”.

ولقد نتج عن تصرُّفات والي جدة سليمان باشا أن حدثت فتنة ومقتلة عظيمة بين الأشراف ذهب ضحيتها الكثير من رجال القبائل بسبب القتال والحرب بالسلاح والمدافع بين الطرفين، بل في بعض الأحيان يضطرب الأمن لدرجة أن تبطل الصلوات الخمس في المسجد الحرام، ويتعطَّل الأذان لعدة أيام بسبب القتال داخل الحرم المكي.

ثم ما لبث أن تغلَّب الشريف عبد المحسن على الشريف سعيد الذي فقد شرافة مكة وخرج منها، ونلحظ أن الشريف سعيد تولى الشرافة مراتٍ عدة مع والده الشريف سعد بن زيد، حيث توفي سنة (1717). 

كان تعيين وخلع الأشراف من ولاية وشرافة مكة يأخذ طابع المصالح والأهواء الذاتية للوالي العثماني وأخلاقياته والبيئة التي قَدِم منها من جهة، ومن جهة أخرى ميل الوالي لأحد الأشراف، ودعمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة ضد الشريف الآخر؟! بالإضافة إلى قدرة أحد الأشراف الطامعين والطامحين للحكم على الوصول إلى مقر السلطان في إستنبول، والحصول على أوامر سلطانية، فيترتب على ذلك التغيير المفاجئ أن تتأثَّر الأوضاع في البلد الحرام، وينتج عنه الفوضى واضطراب الأمن الذي عادة ما يكون ضحيته الأهالي وحجاج بيت الله الحرام. 

ومن ذلك مثلًا ما حصل من خلاف بين الشريف يحيى بن بركات، الذي نُودِي له بالشرافة وأميرًا على مكة المكرمة (1718)، والذي لم تَسلَم فترته من المنغِّصات، واستمر بولايته إلى (1720)، وكان من خيار مَن تولى شرافة مكة، وشهد له بالصلاح والتقوى، حتى قال عنه المؤرخ محمد بن علي الطبري (ت: 1173هـ): “رحم الله مولانا الشريف يحيى؛ فقد كان حسنة من حسنات دهرنا، وما رأيت أصلح منه من أولاد أبو نمي بن بركات في عصرنا قولًا وفعالًا بالحق، كان لا يكاد يفارق المسجد حتى كأنه من حماماته”.

وبعد ذلك تم عزله، ثم تولى الشرافة مرةً سنة (1722)، إلا إنه تنازل عنها لابنه بركات سنة (1723)، إلا أن الخلاف دبَّ في إقراره على الشرافة، فنازعه الشريف مبارك بن أحمد بن زيد، وحدثت بينهما معركة كبيرة حامية الوطيس، وكان الشريف مبارك مدعومًا من إسماعيل باشا والي جدة وبعساكره الذين فاقُوا قوات الشريف بركات في العدد والعدة والذخيرة، وكان من نتائجها هزيمته، وحدثت مقتلة عظيمة حتى امتلأت أعالي مكة المكرمة بجثث القتلى.

لقد عانى البلد الحرام من الفوضى الإدارية التي كان ولاة العثمانيين وباشواتهم في جدة يُدِيرون بها البلاد والعباد، وتلك الازدواجية الإدارية كان أثرها في العادة أثاره وخيمة على الأشراف، وعلى سكان البلد الحرام والحجاج وقاصدي البيت الحرام.

  1. أحمد دحلان، أمراء البلد الحرام (بيروت: الدار المتحدة للنشر والتوزيع، د. ت).
  2. أحمد الخطيب، تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران (الرياض: مكتبة العبيكان، 1999).
  3. عبد الله الغازي، إفادة الأنام بذكر بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام، تحقيق: عبد الملك بن دهيش (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 2009).
  4. محمد بن علي الطبري، تاريخ مكة إتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن، تحقيق: محسن محمد (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1984).