نتيجةً لتخاذل العثمانيين بالوصاية الغربية ونظام "الملل"

الدول الغربية تحكمت بمصير البلاد العربية

بدأ التحول في السياسة العثمانية ابتداءً من القرن الثامن عشر، وظهر ذلك مع معاهدة قارلوجوفجه (1699)، وكان نتيجةَ أن الدولة العثمانية لم تعد قادرة على اتباع سياسية خارجية مستقلة، وتأثر قرارها السياسي بمواقف الدول الأخرى، وهو في الواقع كان بداية اعترافها بالتفوق الأوروبي، فعلاقاتها الدبلوماسية أصبحت قائمة على أرض الواقع مع الدول الأجنبية في القرن الثامن عشر، وكانت على اتصال بكافة دول العالم المسيحي في الغرب آنذاك، مثل: إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، إسبانيا، بروسيا، الدنمارك، هولندا، السويد، بولندا، البندقية، وجنوة وصقلية، واعترفت لهم بامتيازات تجارية كبيرة. ولقد تبع ذلك أن بدأت الدولة في إرسال السفراء إلى الدول الأوروبية لفترات، وطلبت منهم تسجيل مشاهداتهم في المجالات العسكرية والسياسية والأعمال والاكتشافات وكتابة تقارير بذلك، حتى أصبح مع مرور الوقت تقليد متبع في الديبلوماسية العثمانية.

ومع حلول القرن التاسع عشر الميلادي بدأ عصر الدبلوماسية في الدولة العثمانية، ودخلت في أدوار حرجة لاحقًا مع الدول الأوروبية التي أشغلت الدولة العثمانية بقضية “المسألة الشرقية”، ووصفتها بالرجل المريض، الذي لا بد من اقتسام ممتلكاته، وأصبح الباب العالي يتعامل في سياسته مع تلك الدول من خلال مسألة موازين القوى في مواجهة التحديات الخارجية، فجاءت التنظيمات الإصلاحية كمحاولة للإنقاذ، وعرَّفتها دائرة المعارف الإسلامية بالقول: “إنها إصلاح مأخوذ من قانون تنظيم أتمك”، وهي الإصلاحات والتنظيمات التي أدخلت على أداة الحكم والإدارة في الدولة العثمانية منذ مطلع عهد السلطان عبد الحميد الأول، وقد استهلت بالقانون المعروف باسم “خط شريف كُلخانة” أو “تنظيمات خيرية” في عهد السلطان محمود الثاني، وما تبعها في عهد السلطان المستبد عبد الحميد الثاني. 

كبَّل الغربيون الدولة العثمانية بمجموعة من العُقد كالرجل المريض والمسألة الشرقية.

وتحدث التركي أحمد آق كوندز عن تلك التنظيمات بقوله: “لم تجرِ التنظيمات (وهي التجديد في النظم) بإرادة الدولة العثمانية، ولم تثمر بالمنافع المأمولة منها، وذلك إذا نظرنا إليها بمعيار التغيرات السياسية الناتجة وتقلص الممالك العثمانية بمرور الأيام، حتى بلغ الضعف بالدولة على الميل حسبما هبَّت الرياح إلى أوروبا واللهث وراء تلبية مطالبها.. إن هزال الدولة العثمانية، والضغوط الخارجية عليها، وتضعضع النظام القانوني العثماني بسبب الخلل في التنفيذ ـ أشعل لهيب الحركات السياسية الداعية في ظاهرها إلى زيادة حقوق الأقليات.. وإلى تجاوز السلطان محمود الثاني لحده بالقول: بعد الآن، أريد أن ينحصر التمايز بين المسلمين والنصارى واليهود بالمسجد والكنيسة والحوراء، أي بمعنى أن يلغى التمايز خارج المعابد”.   

ثم جاء نظام الملل العثماني، وهو نظام يعتمد على تصنيف رعايا الدولة العثمانية غير المسلمين تصنيفًا يقوم على المذهب الديني الذي ينتمي إليه هؤلاء الرعايا، والذي عُمل به في أوائل القرن التاسع عشر، حيث منح نظام الملل لأهل الكتاب حقوقًا مدنية ودينية، وجعل لهم سلطنة سياسية لم يكونوا يتمتعون بها من قبل، كما نشير إلى أن أوضاع الملل الاقتصادية لم تكن بأقل جودة من أوضاعهم الأخرى، إنها أفضل مما كانت عليه، فبينما كان بعض النصارى واليهود يقيمون في المدن ويختصون فيها ببعض التجارات والحرف والمهن كان بعضهم يحتل بالفعل مراكز نافذة، ويلعب دورًا جوهريًّا في حياة الدولة كصرافي القسطنطينية الأرمن، وصرافي بغداد اليهود، وعائلات الفنار اليونانية التي تقوم بأعمال الترجمة في المفوضيات الأجنبية، أو تحكم ولايات رومانية، تلك كانت أوضاع أهل الذمة في إطار نظام الملل العثماني، حيث استمرت هذه الأوضاع قائمة إلى أن حدث ما يعكرها بفعل عوامل خارجية أتاحتها السلطنة، حين بدأت لأول مرة تغيِّر قاعدتها في التعامل مع الخارج الأوروبي، وذلك عندما منحت كلًّا من البندقية وجنوة امتيازات تجارية سنة (1453)، وكان التبرير حينذاك قائمًا على أساس أن الامتيازات من شأنها أن تساهم في نمو التجارة، الأمر الذي زاد من دخل الباب العالي من الضرائب، ولكن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ ففي حين نشطت أوروبا تجارتها في البحار الشرقية تباطأت، بل ضمرت التجارة العثمانية في تلك البحار مع الوقت، وذلك لاعتمادها على التجار الأوروبيين، ومما زاد الأمر سوءًا إقدام السلطنة على توقيع معاهدة الامتيازات الأجنبية بينها وبين فرنسا، وهي المعاهدة التي اعتبرها المؤرخون بداية الهيمنة الأوروبية على الدولة العثمانية.

ونتيجةً لنظام الملل والامتيازات ظهر نشاط كل من اليسوعيين والفرنسيسكان واضحًا داخل الأراضي العثمانية ضمن الرهبانيات التنصيرية المختلفة، حيث عملوا تحت مظلة حماية السفراء الأوروبيين، وتؤكد المؤرخة ثريا فاروقي تأثير تلك المسألة المرتبطة بالرعايا النصارى لدى السلاطين العثمانيين بقولها: “أكدت دراسة حديثة أنه في مدينة مثل حلب كان التجار الأرثوذكس المحليون في القرن الثامن عشر يرغبون في زيادة سيطرتهم على الكنائس المحلية، وهو الأمر الذي كان يمكن تحقيقه بسهولة إذا تم لهم التخلص من البطريركية في إسطنبول، بالإضافة إلى ذلك سمح تبنِّيهم حالة دعاة الاتحاد الكنسي (Uniate) أو حتى المذهب الكاثوليكي بكامله، بالتواؤم داخل نطاق أوسع في عالم البحر المتوسط الأوسع، الذي كانت السيادة فيه للتجارة الفرنسية”، وما تم ذكره جانب يسير من تأثير نظام الملل العثماني والامتيازات والتنظيمات على الأوضاع الداخلية في الدولة العثمانية بمساحاتها الشاسعة.

  1. أحمد آق كوندز وآخر، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العلمية، 2008).

 

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999).

 

  1. ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2005).

 

  1. دونالد كوترات، الدولة العثمانية 1700-1992، ترجمة: أيمن أرمنازي (الرياض: مكتبة العبيكان، 2004).

 

  1. قيس العزاوي، الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1994).