أثر منح العثمانيين الامتيازات الأجنبية

أصبحت المنطقة العربية فريسة لأطماع الدول الغربية

إن تتبُّع مراحل التغلغل الغربي في المنطقة العربية يجعلنا نَعِي أسباب الأزمات التي مرَّت بها، وأدَّت إلى تفكُّك رابطتها، وتَضارُب مصالحها، والتي تتحمَّل مسؤوليتها الدولة العثمانية وإدارتها في المنطقة العربية خلال قرون الاحتلال، والتي بدورها سلَّمت كثيرًا من البلاد العربية إلى الاستعمار الغربي.

في هذا السياق وقفنا على مسؤولية الدولة العثمانية عن التغلغل المسيحي، على اعتبار أنها كانت صاحبة الإدارة السياسية لمعظم الدول العربية، وساهمت من خلال نظام الامتيازات، في تعبيد الطريق أمام دخول القوى الأجنبية إلى المنطقة العربية، والاستفادة من ثرواتها وخيراتها، وقد “حقَّقَت الامتيازات التي حصل عليها الأوروبيون منذ القرن السادس حرية التجارة في الأراضي العثمانية مع إعفاءات جمركية، فُتحت لهم الأسواق، وكانوا في حاجة إليها لتصريف منتجاتهم الكثيرة نتيجة للتطور الصناعي الذي أحرزوه، كما مكَّنَتهم هذه الامتيازات أيضًا من الحصول على المواد الخام والمعادن بأسعار زهيدة”.

ويمكن القول إن الدولة العثمانية اتخذت سياسات اقتصادية لا وطنية من خلال تفضيل التجار الأجانب المستفيدين من نظام الامتيازات، بالمقابل واصلت إثقال كاهل التجار العرب والمسلمين بالضرائب المرتفعة، وهو ما خلق حالة من السخط والاحتقان الداخلي والرفض لهذه الإجراءات التمييزية.

وهنا نسجِّل أن الدولة العثمانية كانت “تُحصل ضرائب على التجارة الداخلية تتراوح بين 12 إلى 50%، بينما تحصل ضرائب من الدول صاحبة الامتيازات 3% فقط، وقد أدَّت هذه الامتيازات إلى تحطيم اقتصاد الدولة بتحطيمها النظام الضريبي العثماني القائم على حماية التجارة المحلية ضد المنافسة الأجنبية”.

إن الدولة العثمانية تتحمل المسؤولية المباشرة في إحداث شرخ بين المواطنين داخل السلطنة، وذلك بتخلِّيها عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين أيًّا كان جنسهم أو عِرقهم أو دينهم، وقد ساهم نظام الوصاية الغربية على المسيحيين في إحداث شرخ اجتماعي خطير، أضيف إليه شرخ طبَقي أخطر منه، وذلك بفضل مكاسب المدارس التبشيرية والإرساليات التي وضعت بين أيدي المسيحيين سُبلَ تطوُّر تربوي وعلمي ورَفاه لا يحلم بها المسلم في سلطنته نفسها، وبفعل ذلك تحوَّل ولاء المواطنين المسيحيين من السلطان إلى أوروبا.

لقد ساهمت التغييرات التي هدمت البنية السلوكية للتركيبة السكانية داخل الدولة العثمانية، في الدفع بالدول المسيحية – وخاصة فرنسا- إلى اتخاذ مجموعة من التدابير العدائية تجاه السلطنة، من أجل إجبارها على مواصلة العمل بنظام الامتيازات.

وهنا نسجِّل أن فرنسا أرسلت “جنودها لمساعدة البندقية التي كان السلطان مراد الرابع يحاربها، كما أرسلت سفيرها برُفقة عبَّارة بحرية حربية لإرهاب الدولة العلية ومطالبتها بتجديد الامتيازات، لكن الصدر الأعظم حينئذ، الذي كان ما يزال يمتلك قراره السياسي، أخبر السفير بأن المعاهدات هذه ليست اضطرارية واجبة التنفيذ، ذلك لكونها منحة سلطانية فحسب، الأمر الذي جعل فرنسا تتراجع عن تهديداتها، وتتحايل لدى السلطان ليوافق من جديد على تجديد نظام الامتيازات عام 1673م”.

وفي سياق تآكل سيادة الدولة العثمانية حتى داخل حدودها الترابية، قامت الدول الأوروبية بمحاولات جادة للتدخل في شؤونها الداخلية، من خلال استدعاء نظام الامتيازات لدفع سفرائها إلى مشاركة الدولة العثمانية “في قراراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضًا”.

وهنا نسجِّل أن فرنسا كانت من بين الدول الأوروبية الأكثر استفادةً من نظام الامتيازات الذي وقَّعَته مع الدولة العثمانية، حيث “أرادت في أعمالها هذه إفهام الدولة العثمانية بأنها تشاركها في شؤونها الداخلية ما دام الأمر يتعلق بالمسيحيين الذين منحت الدولة العثمانية نفسها حقوقًا للأوروبيين بحمايتهم”.

لقد كان نظام الامتيازات المدخل الرئيس لانفصال مجموعة من الكيانات التي كانت تابعة لسيادة الدولة العثمانية (صربيا، الجبل الأسود وبلغاريا)، وذلك بسبب تَكالُب الدول الأوروبية على إمبراطورية “الرجل المريض”، التي يمكن أن نقول عنها بأنها حفرت قبرها بيدها بنظام الامتيازات، الذي كان بمثابة المدخل لاستباحة المناطق العربية واحتلالها بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويمكن اعتبار نظام الامتيازات ذلك الورم الذي ظل ينتشر وينخر في جسد الدولة العثمانية، وذلك بسبب فرض الدول الأوروبية العديد من التنازلات على مجموعة من المناطق العربية التي كانت خاضعة للإدارة العثمانية، وذلك “بعد أن تحوَّل هذا النفوذ الاستعماري إلى احتلال أجنحة العالم العربي”، حيث “كانت السياسة العثمانية في الولايات العربية عبثية وغير موفَّقة، وبوجهٍ خاص في مصر والحجاز واليمن”.

انطلاقًا مما سبق يمكن القول بأن نظام الامتيازات الذي أقرَّته الدولة العثمانية، جعل من المنطقة العربية فريسة لأطماع الدول الغربية، التي استعملت هذه المعاهدات كحصان طروادة للدخول إلى مناطق عربية لها موقع جيواستراتيجي مهم.

ساهمت السياسة العثمانية العبثية في احتلال أجنحة العالم العربي.

  1. قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).

 

  1. عبد الوهاب العقاب، مشروع الإسلام السياسي في التطور التاريخي والمعاصر (دمشق: دار رسلان، 2011).

 

  1. مجدة مخلوف، الدولة العثمانية.. من الإصلاح إلى الحداثة (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2022).