في الوقت الذي يعشق فيه كل ما هو ألماني

السلطان "الشوفيني" يعاني من فوبيا "العرب"

هفوة أخرى من هفوات السلاطين العثمانيين، فعندما نشاهد كثرة الكتب والمؤلفات التي تحدثت عن السلطان عبدالحميد الثاني ومذكراته، التي اختلفت مسمياتها وتعددت لغاتها، وبرزت اتجاهاتها بين الواصف له بالمظلوم، والمادح له بعاطفة جياشة، والناقد لعصره وحكمه بتعقل وروية. وفي الحقيقة عندما نرصد تلك المذكرات أو الخواطر السلطانية، ونقرؤها بعين غير مؤدلجة سنجد فيها الكثير من التناقضات.

إن أبرز الهفوات والمتناقضات ما ذكره السلطان عبدالحميد في مذكراته بشأن تعظيم العنصر التركي دون غيره من العناصر الأخرى في الدولة والحرص عليه والاهتمام به اهتمامًا كبيرًا كقوله: “علينا أن نبدي اهتمامنا في تقوية العنصر التركي، ومن الضروري تقوية العنصر التركي في بلاد الروم والأناضول، وصهر الأكراد وضمهم إلينا، إن أكبر الأخطاء التي ارتكبها أسلافي من الحكام الأتراك هو عدم سعيهم لصهر العنصر السلافي وعثمنته، ولكن والحمد لله تمكنت دماؤنا من الإبقاء على تفوقها”.

عبدالحميد الثاني بالغ بتعظيم التركي وقارن بين الأتراك والألمان بتباهي وفخر.

وهذا الكلام في النصف الأول من فترة حكمه، يمجد ويتفاخر بعنصريته التركية إلى درجة التعصب المقيت، وكأن الأتراك هم وحدهم الذين يشكلون سكان الإمبراطورية العثمانية دون غيرهم! وبالغ عبدالحميد بعقد المقارنة بين العنصر التركي والعنصر الألماني فنراه يتباهى ويفتخر بالقول: “يقال عن الأتراك أحيانًا إنهم الألمان الشرقيون، والحقيقة أن بيننا وبين الألمان شبهًا في الصفات، وقد يكون هذا التشابه سببًا في ميلنا نحوهم. فالهدوء والحيطة والصبر على المشاق هي الصفات المميزة لهذين الشعبين، وشعبنا بطيء ورزين ويسبق حلمه غضبه فيحتمل الأذى طويلًا، ولكنه إذا غضب كان شديدًا، والجرأة والاستقامة واللطف والكرم هي صفات الألمان مثلما هي صفاتنا”، ولا شك أن مثل هذا القول نابع من نظرة إعجاب بالعرق الألماني الذي كان يرى نفسه من أصفى الأعراق البشرية، وتلك النظرة الاستعلائية توحي للقارئ أن السلطان ينهج ذات النظرة الشوفينية “Chauvinism” والفوقية للعرق التركي، وهو أمر يثير الكثير من علامات التعجب لدى القارئ ممن يدعي أنه خليفة المسلمين، المسؤول الأول عنهم، والذي نادى بالجامعة الإسلامية، التي -على ما يبدو- لم تُستدعَ إلا في محاولة الخلاص من الأزمات الداخلية والخارجية التي اجتاحت أركان دولته. بالفعل إن شخصية السلطان عبدالحميد بحاجة إلى دراسة سيكولوجية لمعرفة سلوكه وتفكيره وانفعالاته، وردود أفعاله التي صدرت عنه خلال تلك الحقبة من التاريخ الحديث، خصوصًا مع ما اشتهر عنه من حالتي الشك والتوهم اللَّتَين كانتا تسيطران عليه وعلى تصرفاته وسلوكه، وعن ذلك الأمر تحدث تحسين باشا رئيس دائرة الكتابة بقصر يلديز، والرجل المقرب من السلطان، في مذكراته عن عبدالحميد فيقول: “وتوهُّم السلطان عبد الحميد، خَلقيًا كان أو مكتسبًا، وهو توهم فوق العادي بكثير، وكان لهذا التوهم آثار مهمة وأليمة أحيانًا في تصرفاته بشكل عام. ومع عدم وجود أي شك في أن قسمًا من هذا الوهم ناشئ عن طبعه، بأنه من المؤكد أن الناس من حوله أيام كان أميرًا أو وليًّا للعهد أو سلطانًا لم يكفوا عن تحريك أوهامه، إذ أظهروا له أوهامًا تفاقم تلك الأوهام”.
ومرة أخرى نرى السلطان يذكر في خواطره قوله: “علينا أن نعترف -وبكل أسف- بأن الإنجليز استطاعوا بدعايتهم المسمومة أن يبثوا بذور القومية والعصبية في بلادنا. وقد تحرك القوميون في الجزيرة العربية وفي ألبانيا”، والسؤال هنا لماذا تحركت تلك الشعوب ضد الحكومة العثمانية ذات النظرة العنصرية لغيرها من الشعوب؟ فهذا مثال كبير للتناقضات التي كان يعيشها السلطان في تعاملاته مع شعوب وأعراق إمبراطوريته، وهو هنا يصح فيه قول المثل العربي الشهير “رمتني بدائها وانسلت”.

باعترافه في مذكراته: "إذا أضعنا إسطنبول ستؤول الخلافة حت ًما للعرب".

ولعل الشيء بالشيء يذكر، فمن متناقضات عبدالحميد الثاني التي تلفت النظر تعليقه على المقترح الذي قدمه له الصدر الأعظم الوزير سعيد باشا، بشأن نقل مقر الحكومة من إسطنبول إلى بورصة في حال مهاجمة الروس مرة أخرى للعاصمة بالقول ما نصه: “إذا أضعنا إسطنبول أضعنا معها الخلافة، ستؤول الخلافة حتمًا للعرب”، وهنا يقف الإنسان متعجبًا وحائرًا أمام هذا الربط الغريب للعاصمة التركية بالخلافة والعرب تحديدًا وحتمية عودة الخلافة إليهم يومًا ما مرة أخرى، فهل كان السلطان عبدالحميد يخشى من أمة العرب فعلًا؟ أم كان يكن لهم الاحترام والتقدير كما كان يظهره لهم في المناسبات، أم هي الخشية من فقدان الشرعية لحكمه وعودة الخلافة لمن اغتصبت منهم؟ أم هو ما كان يدور بالفعل في خلد السلطان ووجدانه من أوهام نطق بها اللسان؟ ولا شك أن الوهم والشك قد بلغ من السلطان عبدالحميد الثاني مبلغه وعاش في ظل تلك الأوهام بقية فترة حكمه لينتهي مخلوعًا.

1. عبد الحميد الثاني: خواطري السياسية 1891-1908م، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م). 

2. مذكرات عائشة عثمان أوغلو “والدي السلطان عبد الحميد الثاني” (جدة: دار البشير للنشر والتوزيع، 2007).

3. تحسين بك، السلطان عبدالحميد الثاني، ترجمة: كمال أحمد خوجة (الكويت: ذات السلاسل، 2017م).