"أسرة البرامكة والتسلط في العهد العباسي"
تحدث المؤرخون عن شخصية خالد البرمكي المؤسس الأول لأسرة البرامكة وحياته بشيء من الغموض وعدم الوضوح عن نشأته الإسلامية، فالبعض منهم كان يرى أنه نشأ على المجوسية دين أجداده، وأنه بدأ نشاطه السياسي مع بدء الدعوة العباسية وانطلاقتها ضد الدولة الأموية ومع مرور الوقت وقيام الدولة العباسية، أصبحت له حظوة ومكانة لدى العباسيين، حيث ولاه الخليفة أبو العباس السفاح على توزيع الغنائم وتركات الأمويين ومن ثم إدارة شؤون ضرائب الأراضي وتسجيلها وإيراداتها والإشراف على إدارة الشؤون المالية للجيش العباسي الناشئ. وإضافة إلى ذلك كان له دور كبير في تحجيم سلطة أبي مسلم الخراساني قائد جيش الثورة العباسية، عندما نجح خالد في فصل الكثير من الجند عن قائدهم دون أن يشعر بذلك، شجع هذا الإجراء البرمكي للمضي بروزا في سُلَّم السلطة العباسية.
ومن ينظر بتمعن في الجوانب الخفية لتاريخ أسرة البرامكة، سيدرك بجلاء كيف تسللت هذه الأسرة الفارسية الأصل مستغلة الروابط الاجتماعية مع بيت الخليفة العباسي لتصل إلى مراكز كبرى في الدولة العباسية حتى ازداد نفوذها وسيطرتها على مفاصل متقدمة فيها، حتى ذكرهم أحد المؤرخين بقوله: ” إن في دولة الرشيد دولة أخرى ملوكها البرامكة”؟! وهذ الأمر ليس بمستغرب على من استطاع العمل على بناء شبكة من العلاقات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية من خلال كسب الرجال الموالين لتلك الأسرة البرمكية، أو على أقل تقدير تحييد البعض لصالحها، وفي ذات الوقت محاربة المناوئين لها من أبناء العرب بصورة غير مباشرة. وإن من يتعمق أكثر في تاريخ البرامكة سيجد أن ذلك الأمر كان متشعبا ومتجذرا في سلالة هذه الأسرة جيلا بعد جيل ولا يمكن إدراكه من أول وهلة.
فبعض الشواهد التاريخية يمكن من خلالها بناء رأي عن ظاهرة الأسرة البرمكية المتسلطة، كاستغلالها الشعراء بالبذل والعطاء المالي بدرجة لا يمكن توقعها ويبدو أنه أحد أساليب أسرة البرامكة في كسب السمعة والصولة في الإدارة العباسية والمجتمع في آن واحد، ولعل شكوى أحد الشعراء البارزين وهو “مروان بن أبي حفصة، من شعراء بلاط الخليفة هارون الرشيد، إلى أحد معارفه من أن البرامكة أعطوا لشاعرهم، أبان بن لاحق، من أجل قصيدة واحدة، ما يعدِلُ حصيلة ما أخذه هو من الخليفة طيلة المدة التي قضاها في مدحه!!، وفي ذلك مؤشر على تعاظم نفوذ أسرة البرامكة في عهد هارون الرشيد، وأثره في الأوضاع داخل البلاط العباسي. وإن كان خالد البرمكي قد وضع أساس ذلك التسلط للبرامكة، فقد برز بعده ابنه يحيى بن خالد البرمكي، الذي كان صاحب الكلمة العليا في شؤون الدولة، إذ كانت له الوزارة وهي وزارة تفويض وكانت له الدواوين كلها، وقد مُنح يحي البرمكي امتيازات خطيرة، فهو أول من أُمِّر من الوزراء حيث استقل بمكاتبة العمال ولم يكن لمثل هذه المكاتبات أن تصدر في السابق إلا عن الخليفة نفسه. فالبرمكي يحيى قد جمع في قبضته القوة السياسية والإدارية والقوة الاقتصادية. حتى قال عنه المؤرخ المسعودي: “لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع خلاله، إلا يحيى في رأيه ووفور عقله”، فأخذ يبرز نجم يحيى البرمكي ويتنامى في السطوع في فترة تولي والده خالد للمناصب في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وفي عهد الخليفة العباسي الهادي القصيرة، حل يحيى البرمكي محل والده في زعامة الأسرة البرمكية. وبرزت بصورة كبرى في عهد الخليفة هارون الرشيد، حتى أصبح توزيع المناصب الكبرى والمراكز الخطيرة في الدولة العباسية لهذه الأسرة لم يكن عفوياّ، بل نكاد نجزم أن هذا التوزيع كان يهدف إلى محاصرة الرشيد نفسه، والإحاطة به من كل جانب حتى لا يتحرك إلا من خلال توجيهات أسرة البرامكة، وتشير المصادر التاريخية أن معظم الرجال البارزين في دولة الرشيد وجدوا صعوبة كبيرة في العثور على رجال لم تكن لهم صله بالبرامكة ليتولوا بعض شؤون الدولة العباسية، فالشبكة الخفية التي أحدثها البرامكة مترامية متجذرة ومتشعبة في عمق الإدارة العباسية. ولا شك أنه قد تبع ذلك الجانب المهم تسلط البرامكة على أموال الدولة وخزينتها، فقد بلغ إيرادهم السنوي عشرين ألف ألف درهم. وكان ما يقع تحت أيديهم من المال أكثر مما يقع تحت يد الخليفة نفسه. وكانوا يكثرون من العطايا ويبالغون فيها، فكانوا حقًّا دولة داخل الدولة، أو ما يسمى بالمصطلح السياسي الحديث رجال “الدولة العميقة”، وعلى العموم مثل تلك الظاهرة الأسرية تكررت -للأسف- في تاريخنا الإسلامي.