بدايات البرامكة ونهاية أعمالهم
“برمك” لقب يُطلق على منصب وراثي يتولاه “الموبذ” في نو بهار، وهي أراضٍ ملحقةٌ بمعبد، يتوارثها أبناء أسرة البرامكة وهم من الفرس، وظلت تلك الأراضي في حوزتهم، حيث ذكرها ياقوت الحموي في معجمه عندما كتب عن بليدة رَاوَن الكبيرة، كثيرة الخير، شرقي بلخ تعود إلى يحيى بن خالد البرمكي، ونو بهار اسم من كلمتين يعني المعبد الجديد؛ إشارة إلى معبد بوذي، تختلط فيه عبادة النار والأوثان، والروايات الأسطورية تتحدث عنهم لتمجيدهم لا سيما التي تذكر إنشاءهم معابد لملوك الفرس الساسان وأنهم من سلالة وزرائهم، ومن الروايات التي تقربهم إلى العرق العربي، أن زوج “الموبذ” كانت ضمن السبايا عندما توجهت حملة قتيبة بن مسلم عام 86هـ، وأنها أمضت ليلة مع عبدالله أخي قتيبة، فحملت بخالد بن برمك، وروايات أخرى في نفس السياق تختلف؛ لمحاولة إثبات النسب – والله اعلم -، وقد أوضح الطبري في تاريخه أن أبناء عبدالله قد وضعوا تلك القصة ليس لتشريف البيت الفارسي بالدم العربي -كما ذهب بعضهم- وإنما كان لتقريب البيت العربي من البرامكة أصحاب الحظوة عند الخلفاء.
ومن أعمالهم زمن الخلفاء وتقلبهم في المناصب والسيطرة المبالغ فيها من جهتهم، أن أُسند إلى خالد الإشراف على ديوان الخراج ولُقِّب بالوزير، وقد يكون الكُتاب هم الذين لقَّبوه بالوزير، وكان بارعًا في الحروب فبعد استعماله على طبرستان نقش أهلها على دروعهم صورته، وكان له دور في تخطيط بغداد، وتنسب إليه دور كثيرة فيها، وكذلك المنصورة، ونصَّب ابنه يحيى على أذربيجان – ولوحظ أن أمر الولاية والعزل كان بيده رغم قوة الدولة العباسية في بداية نشأتها!!
ولم تذكر المصادر أعمال ابنه يحيى سوى إنشاء قناة سيحان بالبصرة، وعَهِدَ إليه المهدي بتأديب ابنه الرشيد، فأشرف على ديوان الرسائل لولي العهد، وكل ما يخص أرمينيا وأذربيجان- وهذه ملاحظة أخرى في توسعهم واستمرار سيطرتهم في تلك النواحي القريبة من بلخ وما جاورها، وخافه في ذلك ابنه الفضل، وزاد السيطرة على خراسان، كما قيل في شأنه أعمال تمت في عهده تبين مدى سطوتهم – وقد يكون مبالغ فيها لتفخيم تاريخهم-. أما جعفر فقد استفاضت بشهرته القصص، إلا أن أغلب مدحه كان لحُسن خطه ودرايته بعلم الفلك وبلاغة منطقه، واشتهر بحبه للأزياء فكانت سيطرة ديوان الطراز المختص بذلك سمة من سماته، وقيل بأنه أول من استعمل رباط الرقبة لطول عنقه، ذكر ذلك الجاحظ في البيان والتبيين، وأسرفوا في حكم ولايات الدولة بنواب يجري تعيينهم من قِبَلهم. ولما جاء عهد الرشيد كانت تراكمات أعمالهم قد برزت وتجاوزت حد الاحتمال، فسَحَبَ محمدَ بنَ خالد البرمكي من الحجابة وأولاها للفضل ابن الربيع.
لم يكن القضاء على البرامكة إلا لمن ثبت فساده، رغم أن المصادر التي كتبت لهم تشوه ذلك، ومن بين المصادر كتب الطبري عن حفيد لهم وهو عمران بن موسى الذي برز في الشؤون العامة بأنه قد دافع عن المدائن حاضرة آل ساسان أمام جيش المأمون سنة 196هـ، وورد ذكره بأنه كان عاملاً على إقليم السند – وإن دل ذلك فإنما يدل على تعامل العباسيين مع الأحداث حسب مُجرياتها، وليس التنكيل من أجل التنكيل. وما يؤكد ذلك ظهور شخصيات لها أدوار مختلفة في تاريخ الدولة، منهم أبو القاسم عباس بن محمد البرمكي كان من آخر وزراء الدولة السامانية، وكذلك حسن البرمكي الدانشمندي قد أُسفر عدة مرات بين بلاط الخلافة والدولة الغزنوية. ويمكن أن نختم بمحمد بن جهم البرمكي المترجم الذي ترجم كتاب ” خداي نامة “، وتذكر المصادر بأنه كان المنجم لأحداث سنة 163هـ.
لم ينكر أنصار البرامكة بأن اغتناءهم وصل إلى مالية الدولة، وكان ذلك ثمن لسكتهم عن أعمالهم في الولايات والأقاليم.
ومن الأبيات الشعرية عن البرامكة في المصادر للجاحظ والأصمعي وغيرهم:
إذا ذكر الشرك في مجلس أنارت وجوه بني برمك
وإن تليت عنــــــــدهم آية أتوا بالأحاديث عن مروك
وقيل أيضا:
إن الفراغ دعاني إلى ابتناء المساجد
وإن رأيي فيـــها كرأي يحيى بن خالد
الأسباب تتعدد وتتداخل في تاريخهم، وذكرت المصادر بأن من برئ من التحيز للفرس منهم، أسرف في مدحهم كثيرًا، وهذه الطبقة عمل على إنشائها البرامكة لتكون مناصرة لها، وتسكت عن أعمال لهم من خلال عقائدهم، والمحافظة عليها – إلا من رحم ربنا – والسياسات التي استعملوها لتنفيذ أعمالهم.