البرامكة

... نسل سادن المجوس الذي حرض أهالي بلخ على نقض عهدهم مع المسلمين

ارتبط تاريخ أجداد أسرة البرامكة بنشاطهم الديني في مدينة “بلخ”، التي تعد من أشهر مدن خراسان الفارسية، التي كانت آنذاك مدينة مقدسة تقصدها الشعوب المجاورة سنويًّا لتقديم القرابين، وكان أجداد البرامكة سَدَنَة المعبد المشتهر باسم “النوبهار”، فجدهم برمك المجوسي هو سادن معبد النار، واشتهر برمك وبنوه بسدانته، وكان عظيم المقدار عندهم. وقد ظل البرامكة على دينهم حتى أواخر عهد الدولة الأموية 90ه/ 708م، وجدهم “برمك” كان أحد المحرضين في بلخ على نقض الصلح مع المسلمين. والمعلومات غامضة عن حياة خالد البرمكي أو حتى نشأته الإسلامية، فهناك بعض المؤرخين يرى أنه نشأ على دين  المجوسية دين أجداده، وأن نشاطه السياسي بدأ مع الدعوة العباسية، ومع مرور الوقت وقيام الدولة العباسية، وحسبما  يقول الأصفهاني عن ازدياد نفوذ البرامكة وسيطرتهم على الأمور: “أن في دولة الرشيد دولة أخرى ملوكها البرامكة”، فيحيى بن خالد البرمكي  كان صاحب الكلمة العليا في شؤون الدولة، له الوزارة، وهي وزارة تفويض وله الدواوين كلها، وقد منح يحيى امتيازات خطيرة، فهو أول من أُمِّرَ من الوزراء، إذ استقل بمكاتبة العمال ولم يكن لمثل هذه المكاتبات أن تصدر في السابق إلا عن طريق الخليفة نفسه. فيحيى قد جمع في قبضته القوة السياسية والإدارية والقوة الاقتصادية.

توَلَّى خالد وتقدم في الدولة العباسية، وتولى الوزارة لأبي العباس بعد أبي سلمة حفص الخلال، وقال عنه المسعودي في كتاب مروج الذهب: “لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جُودِه ورأيه وبأسه وعلمه وجميع خِلَاله (صفاته)، لا يحيى في رأيه ووفور عقله، ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته، ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحة لسانه، ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته، ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه”.

لقد برز نجم يحيى البرمكي في الظهور في فترة تَوَلِّي والده خالد للمناصب في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وفي عهد الخليفة الهادي القصيرة، حل يحيى البرمكي محل والده في زعامة البيت البرمكي، وخلال تلك الفترة التاريخية المهمة ارتبط هارون الرشيد ولي العهد وشقيق الخليفة، حيث كان يحيى يتولى الكتابة لهارون الرشيد. كما تشير المصادر التاريخية إلى الدور الذي اضطلع به يحيى البرمكي في دعم هارون الرشيد باعتباره صاحب حق في الاستمرار في ولاية العهد وذلك لما أراد الخليفة الهادي أن يولي ابنه الصغير ولاية العهد بدلاً من أخيه الرشيد؛ رفض يحيى ذلك وقال للهادي: “أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحلم ويرضون به”.

كان لتعاظم نفوذ البرامكة في عهد هارون الرشيد أثره على الأوضاع داخل البلاط العباسي لدرجة أن بعض حاشية الخليفة ضاقوا ذرعًا من شر البرامكة، واحتدم الصراع بين البرمكيين وخصومهم إلى أن تمكن الخصوم من إقناع الخليفة بأن البرامكة شر يستشري في الدولة ولا بد من التخلص منهم، وقد سبق أن سمم البرامكة موسى بن جعفر الكاظم بعد رحلة لهارون الرشيد، إذ وشوا على موسى بأنه يريد الانقلاب عليه، بكى هارون على ابن عمه وعرف هارون مخطط البرامكة، فقد كان ذكيًّا، ويعرف نفوذ البرامكة في الدولة، وأدرك أن التخلص منهم ليس بالأمر السهل، وقرر عندها القبض على جميع أفراد العائلة البرمكية، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وشرد بعضهم، وقتل البعض، بينما دخل الكثيرون منهم إلى السجون، وهكذا في غضون ساعات انتهت أسطورة البرامكة وانتهت سلطتهم داخل الدولة العباسية، وسميت معركة الرشيد ضدهم بـــ “نكبة البرامكة”.

كاد الفرس أن يقسموا الدولة العباسية بين شرقيةٍ وغربية بعد هارون الرشيد.

نكبة البرامكة ترجع إلى الصراع الخفي الذي شَنَّه العجم على العرب، والذي ظل مستمرًا بعد ذلك في عهد الأمين والمأمون. و ظهر الصراع جليًّا في عهد الرشيد حينما عَهِدَ إلى ابنه الأمين بولاية العهد من بعده سنة (175ه)، وذلك بتأثير التيار العربي الممثل في زوجته زبيدة بنت جعفر وحاجبه الفضل بن الربيع، وكان الأمين في الخامسة من عمره مما يدل على أنها كانت لها دلالة خاصة وهي ضمان الخلافة للعصبية العربية، ولم يرض الجانب الفارسي وعلى رأسهم البرامكة بهذا الوضع فأخذوا يسعون لدى الرشيد حتى نجحوا في جعله يعهد إلى ولده المأمون بولاية العهد بعد الأمين سنة (182هـ) على أن يتولى المأمون ولاية المشرق بعد وفاة أبيه، بمعنى أن خلافة الأمين بعد وفاة والده تصبح على بلاد المشرق صورية، والمعروف أن المأمون كان من أم فارسية ولهذا أيده البرامكة. وفي سنة (186هـ) حج الرشيد ومعه أبناؤه الأمين والمأمون وهناك في البيت الحرام أخذ عليهما المواثيق المؤكدة بأن يخلص كل منهما لأخيه، وأن يترك الأمين للمأمون كل ما عهد إليه من بلاد المشرق، ثغورها وكورها وجندها وخراجها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشورها وبريدها، وسجل الرشيد هذه المواثيق على شكل مراسيم وعلقها في الكعبة لتزداد قدسيتها، ويؤكد تنفيذها كما كتب منشورًا عامًّا بهذا المعنى للآفاق، وبذلك ضمن العرب الخلافة لعربي النسب والعجم بزعامة البرامكة ضمنوا الشرق لرجل هم أخواله.

  1. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
  2. عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس (بيروت: مكتبة لبنان، 1975).
  3. علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
  4. محمد الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب، تحقيق: مصطفى السقا وآخرون (القاهرة: د.ن، 1938).
  5. ياقوت الحموي، معجم البلدان (بيروت: دار صاد، 1975).