قبل أن تتبلور فكرة النسب في الجنس التركي

يوم كان مدلولهم العرقي بناءً على نظام "الفتوَّة"

سليمان شاه بن قيا ألب رئيس قبيلة كايي، وهي إحدى قبائل الغز التركية، تنقل بها سليمان في منطقة الأناضول زعيمًا لها، وهذه العشيرة هاجرت بعد أن نال منهم المغول غربا بموطنهم الأصلي في تركستان تقريبا في عام 617هـ/1220م، وبذلك تمركزوا في سهول سيبيريا الشمالية، وقد خرجت هجرات متتالية طوال العصور الوسطى وإلى العصر الحديث، وعُرِفوا بالترك، وفي هذه الحقبة كانت دولة السلاجقة في نهاياتها باعتبارها دولة لها دورها التاريخي ضد البيزنطيين. 

لم يجد زعيم قبيلة كايي الأحوال مناسبة لاستقرارهم في مناطق الأناضول فقرر العودة إلى موطنه الأم، لكن حسبما ذكرت بعض المصادر التركية وغيرها بأن الرئيس مات غرقًا في نهر الفرات، وبطبيعة الحال لعدم وجود رئيس انقسمت عشيرته إلى قسمين، قسم قرر العودة إلى مقامه الأول، والقسم الآخر قرر التوجه إلى شمال شرق سهول أرضروم بقيادة أرطغرل بن سليمان، وهنا ملاحظة مهمة لاسم سليمان ومن بعده ابنه أرطغرل أسماء عربية وأخرى لها دلالة أعجمية.

وبحكم أن المنطقة التي خرج منها التتار هي التي أخرجت الترك فالسلوكيات البربرية أبدت عاملًا مشتركًا بينهما، وقد أكد الكثير من المؤرخين جلافة العرق التركي، واستخدامهم مبدأ القوة في تعاملاتهم، ويظهر أن القهر المغولي كان عامل أساس في هجراتهم المتتالية.

بعد أن تفككت الدولة السلجوقية، ظهرت إمارات تركمانية متناثرة، منها المستقل ومنها غير ذلك، امتدت تلك العشيرة المزعوم قيادتها لأرطغرل على امتداد الحدود المتاخمة للدولة البيزنطية غرب الأناضول، وكان القطاع الجبلي من جهة البحر الأسود من منطقة قسطموني إلى أنطاليا ملاذًا للترك أو التركمان فهما وجهان لعملة واحدة، وقد كانت مناطق رعوية وهي تناسب طبيعة القادمين من أواسط آسيا، والملفت في الأمر أنهم لازموا أعدادًا كبيرة من الدراويش والمتصوفة، وكان ذلك حسبما ذكر أكمل الدين أوغلو بأنهم كانوا يقومون بدور مهم منذ زمن في الحياة الروحية بين تلك العشائر، كما يصرح بأن المشايخ والدراويش حولوا مفهوم “الفتوة” إلى أن يكون بديلاً عنه مفهوم “الجهاد” وهذه حقيقة لا يمكن نفيها مارسوها في حملاتهم العسكرية.

نزح الكثير منهم إلى وسط الأناضول وشرقها، ومارسوا حياتهم الطبيعية بعيدًا عن المغول واجتياحهم، واجتاحوا الإمارات التركمانية خاصة اقتصادها ليكونوا بذلك بنية تحتية لهم، وتلك هي التنظيمات التي اعتمدوا عليها بالاتكاء على العنصر الديني المتمثل في الطريقة “المولوية” وكانت محاربة أهل السنة واضحة في تعاملاتهم.

إلى أن تضخمت تلك الإمارة التي أطلق عليها اسم “العثمانية” وأصبحت دولة تغزو باسم الإسلام، ويذكر بعض المؤرخين إسلام سكان حوض مرمرة من الروم، وأنهم حافظوا على إحياء دولتهم ولكن في هيكلة إسلامية جديدة، وهذه نظرية لا أساس لها، ذكر ذلك خليل إينالجيك، ثم ينحو المؤرخون إلى أنها إمارة تحولت إلى دولة من جذور التطورات السياسية والاجتماعية والديموغرافية للأناضول في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وهل يمكن لدولة أن تقيم كيانها من أسباب وخلفيات دولة لها جذور طبيعية جغرافية؟

نكثوا العهد مع العرب لإحساسهم بالضعف الثقافي والتاريخي

الذي لم يسلط عليه الضوء وحسبما ذكر خليل إينالجيك أن الضربات المغولية المتلاحقة للعشائر المنهزمة المهاجرة ، جعلت من الترك يبحثون عن ملجأ في المناطق الحدودية، ولقد شكل تواجدهم مجموعات غازية تسطو وتحاول أن تتسلط من أجل أن تستقر، وبذلك كانت التجمعات تزداد من أصول مختلفة متنوعة من أواسط آسيا ومن الإيلخانيين (الإيرانيين) وروح الغزو تشتعل فيهم، ووجدوا في الجهاد -الذي يُحاكي الفتوة لديهم- ضالتهم، والاتجاه صوب البيزنطيين ولأسباب متعددة خاصة ببيزنطة لم يقفوا في وجه الغزاة، مما فتح الطريق أمامهم لاحتلال مناطق في التخوم الحدودية، وهذا وصفُ إينالجيك، ويذكر أن من بينهم الفتوة عثمان، ولقد كان النمط المتبع في أسلوب الغزو التركي منهجاً لموجات قادمة، واتخذوا من اسم عثمان مسمىً لدولتهم .
من هم العثمانيون؟

لقد كان الغزو الذي تلبس لباس الجهاد ينسجم مع نموذج أخذ على عاتقه الجهاد الدائم لتوسيع دار الإسلام، والتوغل صوب أوروبا، ومن الملاحظات المهمة هنا أن الدولة العثمانية رغم توغلها لم تُسلم أوروبا، ولم ينتشر فيها الإسلام ولم تتحول دولها أو بعضٌ منها إلى دار إسلام، فما السبب؟! رغم أن العثمانيين طرقوا أبواب فيينا.  

ومن المفارقات العجيبة أن لقب الغازي يطلقونه على قادة أعدائهم – إن كانوا أعداءهم حقًّا- فمثلاً الغازي ميخال وهو من القادة العسكريين البيزنطيين تعاون مع العثمانيين لينصهر الجميع بعد ذلك في مجموعات جديدة وحسب المدلولات التاريخية، فهذا بداية ظهور عناصر المرتزقة في الإمارة العثمانية.

عودٌ إلى تاريخ إينالجيك فإنه يقول: “لم يكن الهدف من الجهاد تدمير عالم الكفر، أو دار الحرب بل إخضاعه. وهكذا فقد أسس العثمانيون إمبراطوريتهم بضم البلقان المسيحي إلى الأناضول المسلم تحت حكمهم، وقامت هذه الإمبراطورية بحماية الكنائس الأرثوذكسية وملايين المسيحيين الأرثوذكس مع أنها اعتمدت على الجهاد مبدءًا رئيسًا لها”. لذلك سارت العلاقات المتوطدة بين روسيا الأرثوذكسية والدولة التركية إلى يومنا هذا. 

فالأصول العرقية التي انحدر منها العثمانيون، والتي يكتنفها الغموض في هذا الجانب، تؤكد على أنه ليس للفظة “عثماني” مدلول عرقي محدد، وإنما هو لفظ لاسم كان نتيجة لاختلاطهم بالعمق الإسلامي السلجوقي وغيره في المناطق المجاورة لهم، وما يؤكد ذلك نسبهم الذي وثقه عدد من كبار المؤرخين.

المؤرخ التركي "إينالجيك" شرَّح العُقدَّة التركية تجاه الجذور.

1- أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، (مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، استانبول، 1999م). 

2- خليل إينالجك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة محمد. م. الأرناؤوط (المدار الإسلامي، بيروت، 2002).

3- علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية، (ط 3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1994م).

4- محمد بن محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية، دراسة وتحقيق: حياة مناور الرشيدي، (دار الراية للنشر، القاهرة، 2016م).

5- محمد فؤاد كوبريلي: قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد سعيد السلمان، (ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م).

6- يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، (ط1، مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول 1988م).