"البِهَافَريدية"
ديانة فارسية نشأت في نهاية الأمويين وقُضي عليها في بداية العباسيين
النشأة والتكوين
لا يمكن فصل تَسَلُّطِ العنصر الفارسي وتَغَوُّلِه في داخل الدولة العباسية عن تساهل خلفاء العباسيين أنفسهم في ذلك، فقد وجدوا في الفرس أعوانًا ومساعدين، ووضعوهم في مكانة أبناء العرب الفاتحين، الذين استوطنوا العراق والشام وغيرها من البلدان التي فتحت في أول العصر الإسلامي، كان ذلك خيارًا عباسيًّا دفعوا ثمنه غاليًا فيما بعد.
وليس هناك من سببٍ مقنع يدفع العباسيين لذلك، فالدولة العربية – صَدْرُ الإسلام والأموية- كانت قد تخطت المئة سنة الأولى من عمرها واكتسبت من الخبرات الإدارية والمالية والمعرفية الشيء الكثير، لكن الخلفاء العباسيين في معظمهم، مَكَّنُوا الفرس وثقافتهم الدينية الزرادشتية من التغلغل داخل جسد الدولة حتى فتَّتَتْها ثقافيًّا واسقطتها عسكريًّا.
رحبت الدولة العباسية -منذ بداياتها- بالعنصر الفارسي في الإدارة والحكومة، وفتحت لهم الأبواب ورفعت مراتبهم، فأصبح للفرس حضورٌ واسعٌ وفاعلٌ في بغداد العاصمة، وتركوا تأثيرات عميقة في شتى المجالات.
هذا التأثير لم ينحصر في أخذ التجارب الديوانية والتشكيلات الإدارية من الفرس، بل اشتمل على كثير من المهن والمشاغل. فبعد أن اتخذت الحكومة العباسية بغدادَ عاصمة لها، تأثر العراق تأثيرًا ملحوظًا بشتى المجالات الثقافية والحضارية والفارسية، وانتشرت الفنون والمهن الإيرانية كالكتابة بالفارسية والحياكة والخياطة والذوق على الشكل الفارسي.
وعندما أصبح العراق مركزًا مهمًّا من مراكز الدولة الإسلامية وأصبحت بغدادُ عاصمة الدولة، ومركزًا لاتخاذ قراراتها، وقاعدةً مهمة من قواعد الحكم، سُمِح بهجرة كثيرٍ من الصُنَّاع وأرباب المهن الإيرانيين إليها.
الحضور الفارسي دَخَل بدينه وثقافته
حضور الفرس في الحكومة العباسية كان له تأثيرات بالغةٌ جدًّا على الإدارة العباسية، وبدا ذلك واضحًا بعد استيلائهم على الشؤون الإدارية وتوسيع نطاق عملهم في البلاد، وظهرت حِرفٌ ومهنٌ إيرانية في العراق لم تكن معروفةً من قبل، ولا أدل على ذلك من تأثير الأسرة البَرْمَكِيَّة اللاحق في الدولة العباسية.
يقول الباحثان علي أصغر میرزائي، وعبد السالم بالوي في كتاب لهما بعنوان: “انتقال المهن والصناعات الإيرانية إلى العراق في العصر العباسي” دراسة في أسباب وطُرق النقل: “لقد كان لتغلغل العنصر الفارسي في الحكومة العباسية منذ نشأتها أثره الكبير، فقد ترك الفرس لأنفسهم أثرًا كبيرًا في اهتمام الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم بالثقافة الفارسية حتى وصل الأمر للاحتفال بعيدي النيروز والمهرجان، وهما من الأعياد الفارسية –الدينية- وقد استمر الاحتفال بهذين العيدين خلال القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة. وكان للبويهيين تأثير بارز في المجتمع العراقي، وبخاصة فيما يتعلق بالمراسيم الدينية في عهدهم، فقد حرصوا على إظهار تفاصيل ثقافتهم”.
الاستلاب الحضاري
كان الحضور الفارسي برضى العباسيين طاغيًا، وانتقل من الإدارة إلى الملابس والمنسوجات الفارسية، واستبدل العباسيون اللباس العربي الأصيل بالفارسي، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي، فلُبست السراويل والأقبية، كذلك الطيلسان الذي يعد من أشهر الألبسة الفارسية، وهو كساء مدور يوضع فوق الرأس ويتدلى على الجبين.
ولم تسلم الأطعمة العربية من دخول الفارسية عليها، فقد انتشر المطبخ الفارسي في قصور الدولة، وأصبح المفضل وتغيرت الذائقة العربية إلى ذائقة فارسية.
الظهور المبكر للمجوسية الفارسية
لم تكد الدولة الأموية تسقط حتى ظهرت أنياب الفرس المجوس الذين عملوا في صمت للخروج، وإعادة تأسيس ديانتهم ومملكتهم الساسانية التي سقطت على أيدي الفرسان العرب. ومع ضعف الدولة الأموية وتراخي يدها، وظهور الدعوة العباسية، خرجت آمال الفرس إلى العلن من جديد، دفع ذلك في نفوس الانفصاليين الفرس آمالاً كبيرة، إن هم أيَّدوا الدعوة العباسية سيتمكنون من استعادة مكانتهم وديانتهم، وبذلك ظهرت من جديد في تلك الأقاليم بعض تعاليم الديانات المجوسية (الزرادشتية والمانوية والمزدكية)، متلبسةً بثوب إسلامي أحيانًا، أو بعبارة أخرى فإن تلك التعاليم متطورة عن تلك الديانات بعد تأثرها ببعض تعاليم الدين الإسلامي، وبعد نجاح الدعوة وتأسيس الدولة وإعلان تمسك العباسيين بالدين الإسلامي، وعملهم بالكتاب والسنة، واعتمادهم على العناصر العربية – في بداية الخلافة- ، قامت تلك العناصر الفارسية بحركات متمردة ضد العباسيين، محاوَلة منها لإعادة مجدهم الغابر، وإنهاء الحكم العربي في تلك الأقاليم.
حركة الفارسي بِهَافَريد (747 – 749م):
تعد حركة بهافريد أقدم الحركات الدينية السياسية التي ظهرت في خراسان شرق الدولة العباسية في أواخر عصر الأمويين، وأثناء نشاط الدعوة العباسية هناك، واستمرت بعد تأسيس الدولة العباسية، وأسس هذه الحركة رجل يقال له بهافريد بن فردردينان، من قرية روى من أبرشهر وكان مجوسيًّا زرادشتيًّا – حاول التلبس بشيء من تعاليم الإسلام، ومنها أنه كان يصلي الصلوات الخمس بلا سجود، ومتياسرًا عن القبلة.
وتشير رواية تاريخية أنه قبل أن يعلن عن نفسه ذهب إلى الصين، وبعد عودته منها جلب معه قميصاً أخضر ناعماً دقيق الصنع، وعند وصوله إلى بلده في خراسان صعد ليلاً إلى قبة أحد المعابد دون أن يراه أحد، فرآه في الفجر أحد الفلاحين ثم اجتمع الناس حوله فأخبرهم أنه قدم من السماء حيث شاهد الجنة والنار، وأن الله قد منحه هذا القميص الغريب الذي كان في الجنة. تحرك بهافريد في نيسابور قبل إعلان الدعوة العباسية في رمضان (129هـ) الموافق (747م).
ادعى بهافريد النبوة، كما أظهر كتابًا باللغة الفارسية زعم أنه أُوحِيَ به إليه، ودعا إلى نوع معدل من الزرادشتية المجوسية، وبشر بأنه خليفة زرادشت الذي اعترف بأنه نبي، إلا أنه رفض بعض تعاليم الزرادشتية وأدخل بعض التعديلات الأساسية في ديانة زرادشت بما ينسجم مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، ومن تعاليمه الجديدة ما يذكر من أنه أمر أصحابه بترك الزمزمة عند الطعام (كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي)، وبترك شرب الخمور وأكل الميتة، ونكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ، وهذه الأمور ليست محرمة في التعاليم الزرادشتية، وقد أخذ تحريمها من تعاليم الإسلام، ولكنه أمر أتباعه بالسجود إلى عين الشمس على ركبة واحدة.
الدِّين الذي جاء به بِهَافَريد الفارسي خليط بين التعاليم الإسلامية والزرادشتية
كما فرض بهافريد على أصحابه سبع صلوات أولها: صلاةٌ في توحيد الله، -بينما الزرادشتية دين ثنائيٌّ وليس توحيديًّا-، وثانيها: في خلق السماوات والأرض، وثالثها: في خلق الحيوان وأسباب عيشه، ورابعها: للموت، وخامسها: للبعث والحساب، وسادسها: لموطن الجنة والنار، وسابعها: لتمجيد أهل الجنة.
ولعل واحدةً من أهم تعاليمه التي تسربت فيما بعد حلول الروح، وكان من الداعين إلى (مذهب الرجعة)، وربما كان أهم مبادئه، ومغزاه أن الإنسان لا يموت وإنما يختفي في مكانٍ ما وأنه إذا مات سيعود إلى هذه الدنيا قبل يوم الدين.
القضاء على أولى الحركات الفارسية المتمردة
تُجمع معظم المصادر أنه قُضِيَ على الحركة المتطرفة في زمن أبي العباس السفاح أول خلفاء العباسيين، وقد قاوم المجوس – أنفسهم – حركة بهافريد، وعَدُّوه منشقًّا، واجتمع الموابذة والهرابذة (رجال الدين المجوس) إلى أبي مسلم في نيسابور، وشَكَوا إليه أن بهافريد قد أفسد دين الإسلام ودينهم، فأرسل أبو مسلم شبيب بن داح وعبد الله بن سعيد فعرضا عليه الإسلام، وأسلم وسُوِّدَ (صار سيِّدًا)، ثم لم يُقْبَل إسلامُه لتكهنه فقُتِل.
تعاليمه انتشرت في خراسان خاصة بعد مصرع أبي مسلم الخراساني، إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ولعل ثبات البهافريدية على معتقداتهم يعود بعضه إلى اعتقادهم بحتمية رجوع بهافريد، إذ يعتقد أتباعه أنه صعد إلى السماء على حصان، وأنه سيعود إلى الأرض لينتقم من أعدائه.
- حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).
- السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).
- علي ميرزائي وعبدالسلام بالوي، انتقال المهن والصناعات الإيرانية إلى العراق في العصر العباسي (إيران: جامعة آراك، د.ت).
- محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).
- نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).