بين الصفا وباب الوداع في الحرم المكي

أطلق العثمانيون نيران رصاصهم على الأهالي سنة (1908)

  عانى الحجاز منذ احتلاله من قِبَل الدولة العثمانية ازدواجية السلطة والإدارة فيما بين شريف مكة المكرمة وسلطة الوالي التركي في جدة، وكان لهذه الازدواجية آثارها السلبية على استقرار الأوضاع الإدارية والأمنية، وذلك لعدم التوافق بين الطرفين من الناحية الإدارية والفكرية، مما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى النفرة والتصادم فيما بينهما، حتى وصفتها تقارير القنصلية البريطانية في جدة بأن ازدواجية السلطة في الحجاز مصدر من مصادر القلاقل والاضطراب الأمني. 

ومما كان يثير القلاقل في الحجاز فرض الضرائب الدائمة والمؤقتة لأهداف معينة من أجل التطوير، أو عمل إصلاحات عمرانية وغيرها، وبعض الضرائب المؤقتة التي قد تستمر لأكثر من عشرين سنة، والتي بدورها تَمسُّ الحُجَّاج والمقيمين في الحرمين الشريفين، واتخذت أشكالًا وطرقًا مختلفة، بل قد تكون تلك الضرائب منشأ خلاف الوالي التركي وشريف الحجاز، ومَن يتمعَّن في دراسة الضرائب في الدولة العثمانية سيجد أنها تنوعت من ولاية إلى ولاية، وحسب تسلط الولاة والإداريين فيها.

جاءت ثورة أهالي مكة على العثمانيين بسبب فرض ضرائب على دفن الموتى

ومن تلك الضرائب التي أثارت جدلًا واسعًا وقلقًا لدى الناس في مكة المكرمة، وأدَّت إلى إعلان الثورة ضد الأتراك، ونشبت بسببها معركة استُخدم فيها السلاح الناري والرمي بالرصاص الحي، مما تسبب في حدوث مقتلة سنة 1326هـ (1908)، حيث ثار الأهالي في مكة لأن رجال الدستور من العثمانيين قرَّروا استيفاء ضريبة خاصة على دفن الموتى، وقدرها خمسة ريالات مجيدية، لتصرف على تعمير الجدار المحيط بالمقابر، وعمارة القبور المتهدمة، واستحضروا لذلك الأمر شيخ القبوريين أحمد القبوري ليبلغوه استيفاءها من أهالي الموتى، فاستنكر القبوري أمر الضريبة، وخرج من دار الحكومة صائحًا، فاجتمع إليه الناس، وأبلغهم الأمر في صورة استثارت شعورهم، وكانوا لم يعتادوا على مثل تلك الضرائب الغريبة، وصاح صائحهم بالجهاد في سبيل الله، فخرجوا بأسلحتهم ينادون بالثورة ضد الأتراك، وهاجموا المواقع العسكرية، وجرى إطلاق الرصاص فيما بين الصفا وباب الوداع بالمسجد الحرام، وقتل في هذه الفتنة عدد من  الأهالي وبعض العساكر.

لم تخمد الفتنة إلا بعد أن تدخل بعض الأشراف ووكيل الإمارة لإخمادها، وشارك في ذلك بعض أعيان مكة بعد ساعات من نشوبها، وقامت الإدارة التركية في مكة بعد ذلك بالقبض على أحمد القبوري، وعشرين من أعوانه، واتُّهِم محمد علي بن عبد الواحد، كاتب الشريف،  واتُّهِم أمير مكة الشريف علي بن عبد الله بالدعوة إلى الثورة ومساعدتها.

كان الاتحاديون في إسطنبول قد بلغهم ما قيل عن الشريف علي في مساعدته لثورة القبوري، فأصدَروا أمرًا بعزله في ٢٨ رمضان عام 1326ه (1908)، وتولية عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون، الذي كان يقيم في إسطنبول، فشرع يجهِّز أمره للسفر إلى مكة، لكن المنية عاجلَته قبل أن ينتقل في ٣ شوال من السنة نفسها، وقيل إنه كان ضعيف البنية أنهكَته الأمراض، كما قيل إنه مات مسمومًا.

  1. أحمد السباعي، تاريخ مكّة.. دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران (الرياض: مكتبة العبيكان ، 1999).

 

  1. محمد الشعفي، التجارة الخارجية لمدينة جدة في العهد العثماني (الرياض: د.ن، 1991).

 

  1. محمد مغربي، أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر للهجرة وبعض القرون الماضية (جدة: دار تهامة، 1404).