بين قتل الإخوة وحكم الحريم
هنا تختبئ قصة ضعف سلاطين وسلالة العثمانيين
التاريخ حقائق ووقائع ولا يمكن تزيينه بمساحيق خدمة لأجندات سياسية لم تعد خافية على الجميع. وقوة الدول تكمن في تناولها للتاريخ من خلال مقاربة موضوعية تغيب عنها الذاتية، على عكس التاريخ العثماني الذي ينطلق من ذاتية السلاطين ومديحهم الذي لا يشابه الواقع.
الأقلام المتعثمنة والمتأسلمة تجتهد في التزوير وتلهث وراء التبرير، من أجل إعادة كتابة تاريخ عثماني على المقاس يمكن أن يشكل أحد أدوات القوة الناعمة لتركيا في مشاريع الانتشار والاختراق، باستعمال الأقلام الإخوانية التي اجتهدت في تقديم تاريخ عثماني يفوق في قدسيته صفاء ونقاء سيرة القرن الأول من الإسلام والذين قال عنهم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام “خير القرون قرني ثم الذين يلونونهم ثم الذين يلونونهم” .
وإذا كانت ظاهرة قتل السلطان الجديد لإخوته “حفاظا على السلطة” كما يدعون، بدعة عثمانية خالصة، فإن السلطان محمد الفاتح قد جعل من هذه البدعة السيئة “قانونا رسميا” ارتكن إليه سلاطين الدولة العثمانية من أجل تصفية “المنافسين المحتملين” على العرش، من خلال “قانون نامه” الذي تم تناوله في العديد من المقالات العلمية.
الأقلام المتعثمنة والمتأسلمة تجتهد في التزوير وتلهث وراء التبرير.
في هذا السياق، نص القانون العثماني “على أن السلطان يولي أبناءه ولايات فيرتحلون لها مع مؤدبيهم ليتدربوا على أعمال الحكم، تمهيداً لوصول أحدهم إلى العرش، ثم بعد ذلك عُدِّل التطبيق لتكون الولاية للابن الأكبر فحسب -مع بقاء قانون إباحة قتل الإخوة الذكور- حتى قام محمد الثالث، بعد قتله إخوته التسعة عشر بإلغاء نظام تعيين الأمراء ولاة وأسس لنظام “القفص” وهو جناح أميري في الحرملك -حيث يحبس الأمراء ويعزلون عن العالم ويمنعون من الزواج حتى الموت”.
لقد كان قتل الإخوة وسلطة الحرملك إحدى أهم أدوات ضبط السلطة السياسية داخل الدولة العثمانية، ولذلك تميزت فترة حكم معظم سلاطين الدولة العثمانية بالجمع بين الأداتين؛ قتل الإخوة ثم تدخل النساء من خاصة الحرملك في تدبير الشأن السياسي للسلطنة. وهنا نسجل بأن مراد الرابع، ابن السلطانة كوسيم، لم يحد، هو الآخر، عن هذا القانون حيث قتل هو الآخر أخويه بايزيد وسليمان.
ويمكن القول بأن نساء الحرملك قد استفدن، نسبيا، من ظاهرة “الاغتيالات السلطانية” إن صح التعبير، حيث تحول مركز ثقل القرار إلى زوجات وأمهات السلاطين، ليطفو إلى السطح اسم السلطانة صفية زوجة السلطان مراد الثالث وأم السلطان محمد الثالث. هذه الأخيرة كانت مركز ثقل صناعة القرار السياسي داخل الحرملك وستقود سياسة عثمانية مهادنة للبندقية مسقط رأسها وموطنها الأصلي.
ورغم المنافسة الشرسة بين سيدات القصر السلطاني إلا أن السلطانة صفية استطاعت حسم هاته الصراعات، خاصة بعدما أمرت بقتل 18 ابنا للسلطان مراد الثالث قبل حتى دفن هذا الأخير، وبالتالي ضمنت انفراد ابنها محمد الثالث بالسلطة. ومن دهاء السلطانة صفية أنها كانت صاحبة فكرة الأقفاص التي أشرنا إليها أعلاه، قبل أن تركب على فتوى قتل الأبناء لتخلي المجال أمام ابنها محمد الثالث لينفرد بحكم الأستانة.
السلطانة صفية بقيت سيدة القصر إلى غاية حكم السلطان أحمد الثالث والذي أدخل إلى القصر سيدة كانت سببا في إسقاط عرش السلطانة صفية وهي السلطانة كوسيم، والتي شُغف بها السلطان أحمد وتزوجها رغم معارضة سيدة القصر آنذاك السلطانة صفية، في مخالفة لأعراف القصر السلطاني، وليطلق عليها لقب “السلطانة القائدة”، لتلد له السلطان مراد الرابع وابراهيم الأول.
لقد كانت كوسيم على قدر كبير من الدهاء، حيث استطاعت تدبير الصراع داخل الحرملك، وأيضا الانفتاح على جهاز الانكشارية والذي كان يعتبر أحد أهم وأخطر مراكز ثقل الحكم العثماني. ومن خلال مجموعة من التفاهمات مع السلطان “الضعيف” مصطفى الأول، استطاعت كوسيم أن تُنصب ابنها ذو 11 ربيعا وبه حكمت البلاد، واستطاعت أن تبقى لقرابة نصف قرن كرقم صعب داخل المعادلة السياسية العثمانية.
لم تنتبه السلطانة صفية إلى عامل السن كمعطى مهم وسلاح حاسم في أيدي الفاتنة كوسيم والتي استطاعت حسم الصراع أمام محاولات يائسة لسيدة أنهكتها السنون والصراعات المتكررة على السلطة داخل الجناح النسائي للسلاطين ولتنتهي قصة السلطانة صفية في أحد القصور على ضفاف البوسفور لا يكاد يسمع لها ركزا، ولم تدون كتب التاريخ بدقة تاريخ أو ظروف وفاتها.
- طلال الطريفي، العثمانيون ماكان حديثًا يفترى (الرياض: دار ائتلاف، 2021).
- وليد فكري “الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال”، الرواق للنشر والتوزيع، 2019.
- د. محمد فتحي عبد العال “السلطان وبناء المسجد الحرام”، مقالة نشرها صاحبها على الرابط https://www.google.co.ma/books/edition.