بين العظمة والجريمة:

فك الرموز السياسية والشخصية لمحمد الفاتح

بالرغم من أن السلطان محمد خان أو الفاتح، كان طفلًا مدللًا في قصور السلطان والده، وبالرغم من أن الحكم انتقل إليه بسبب المصادفات التاريخية، بعد موت إخوته الكبار الذين تولوا ولاية العهد قبله، وبالرغم من فشله في كثير من مهماته الإدارية والعسكرية، إلا أن العثمانيين الجدد يقفزون على تلك الحقائق، ويروجون لعظمة سلطان ولغت يداه في دماء إخوته ودماء أحفاده والأمراء من بعده لقرون عدة حتى سقطت الدولة العثمانية، جريمة أقل ما يقال فيها لا تغتفر في حق أرواح بريئة بعضها رضع لم يبلغوا الفطام.

تحت ظل السلطان: الفشل والفتك.

لقد ابتدع السلطان محمد الفاتح بدعة خبيثة تقطر دمًا وغدرًا، وبالرغم من كل المسوغات ومحاولات التضليل التي قادها المؤرخون المزورون الذين تحالفوا مع العثمانيين الجدد لتجميل وجه محمد الفاتح ومن ثم تجميل السلطنة نفسها، إلا أن التاريخ لا يرحم والدماء لا يتغير لونها والأرواح المغدورة لا تسامح.

وبعيدًا عن بدعة محمد الفاتح بقتل كل من يتوقع أن يعترض الحكم، من المهم أن نفهم شخصيته المعقدة والمترددة والشكاكة التي ابتدعت تلك الفكرة وحولتها من جريمة إلى قانون يستظل بفتاوى رجال دين ساروه ووافقوا هواه ولم يتصدوا لنزوة السلطان، بل أيدوها وأعطوها الغطاء الشرعي الذي لا يمكن له أن يسمى شرعيًا إلا في قانون بني عثمان، وهم الذين اتخذوا من الدين وسيلة وغاية لتحقيق أهدافهم في السيطرة والحكم والاحتلال. لذا نشأ محمد الفاتح كطفل مدلل في قصر والده، ولم يكن في خط تولي ولاية العهد أبدًا، بل إن فشله المستمر في كثير من مهماته دفع والده إلى عقابه أكثر من مرة.

فشله في التعليم:

خصّص السلطان مراد لابنه محمد الفاتح عدة مدرسين لتعليمه أثناء فترة ولايته في أماسية، وفشلوا جميعًا في تدريسه بسبب شخصيته المدللة والمتمردة، ولذلك كلف السلطان مراد معلمًا آخر هو الكردي المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني المعروف بالقسوة والحدة في تعليمه وتربيته وتأديبه، ولعلمه بشخصية ابنه المتمردة طلب السلطان من المعلم الكردي ضربه إذا خالف أمره، ونجح الكوراني جزئيًا، لكن ذلك استدعى تدخل معلم آخر مع الكوراني، وهو المدرس العربي الدمشقي شمس الدين محمد بن حمزة الدمشقي الملقب “آق شمس الدين”، الذي علمه اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك.

فشله في الولاية:

على إثر هزيمة والده السلطان مراد الثاني أمام الأوروبيين في معركة نيش عام 1443م تنازل عن الحكم لابنه محمد الفاتح في عام 1444م، وذهب السلطان مراد ليعتزل مع إحدى الطرق الصوفية، ولكن السلطان محمد الفاتح فشل في الحكم ولم يستطع إدارته، وكادت بلاده أن تتفكك أو تُحتل من الأوروبيين، الأمر الذي دفع السلطان لعزله، والعودة مرة أخرى للحكم.

الفشل العسكري:

تعرض السلطان محمد الفاتح لسلسلة من الهزائم أمام جيوش المجر، وعندما أحس بالهزيمة النكراء وما جلبه على بلاده من أهوال وفضائح أرسل لوالده السلطان المعتزل رسالة يطلب فيها أن يعود للحكم حيث قال له: “إذا كنت أنت السلطان فتعال وقد جيوشك، وإذا كنت أنا السلطان فتعال وقد جيوشي”، فأتى السلطان مراد وانتصر في معركة وارنة، ثم عاد لعزلته دون أن يسترد الحكم من ابنه. لكن فشل السلطان محمد الفاتح في التعامل مع مكونات بلاده من الفرق الباطنية وجنود الإنكشارية، وتمردهم على الحكم والسلطان، الأمر الذي دفع السلطان مراد يعود للحكم مرة ثانية عام 1446م، ويعزل ابنه عن الولاية.

الفشل الذي دفع السلطان محمد الفاتح لقتل المجهول:

لعل ذلك الفشل المتكرر في حياة السلطان، من التعاليم إلى الحروب وصولًا إلى إدارته الفاشلة للحكم واستنجاده بوالده للسيطرة على الهزائم المتكررة التي كادت أن تذهب بريح بني عثمان، هو ما دفعه لبناء سر من الحماية الوهمية حول سلطنته، بقتل إخوته وأبنائه، وإعطاء السلاطين من بعده التشريع الذي يستخدمونه للقتل، متوهمًا أنه بقتلهم سينهي الفشل الذي يلاحقه. إن عدم ثقته بنفسه وخوفه من المجهول وخوفه من تكرار الفشل أدى به لأن يبتدع أمرًا أنانيًا لم يسبقه إليه أحد، فكيف يقنن بشر سوي القتل بلا جريمة، بل وتستمر تلك الجريمة لقرون بعده، مودية بأبنائه وأحفاده وأبناء عمومته. لعل أولى بدائيات التخلص من المخاطر المجهولة التي سيطرت على عقل وتفكير السلطان محمد الفاتح، هو ما أوردته الروايات التاريخية عن قيامه بقتل أخيه الرضيع أحمد، كي لا ينافسه على الحكم مستقبلًا. وكالعادة فقد بادر العثمانيون الجدد وهم في أغلبهم من غير الأتراك لتكذيب ونفي هذه الجريمة على محمد الفاتح، وأخذوا في تلفيق القصص وتبرير أفعاله لينفوا عنه تلك الجريمة البغيضة في حق رضيع لم يبلغ الفطام، ولا يعي مكائد الحكم والانقلابات. ومع دفاعهم وتزويرهم المستمر إلا أنهم يفشلون أمام الحقائق الدامغة ومنها القانون المؤرشف في بيت الحكم العثماني، الذي سنه وشرعه محمد الفاتح الذي يجيز قتل الإخوة والأبناء من أجل الحكم، والوارد نصًا في قانون “نامة آل عثمان”، إذ صدره محمد الفاتح بما يلي: “إن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائنا فمن المناسب أن يقتل إخوته من أجل النظام العام، وقد جوز أكثر العلماء ذلك فليعملوا به”. لقد أسقط التشريع الذي ابتكره محمد الفاتح، كل حجج المدافعين عن السلطان محمد الفاتح، ولذلك يقومون تارة بتزوير الأحاديث، أو تعظيم أفعاله وإخفاء جرائمه، ولا شك أنه بذلك شركاء في بدعته الضالة التي ابتدعها. ويورد كتاب الدولة العثمانية: الدولة الإسلامية، في المجلد الأول تفاصيل عن تحولات طالت القانون فيما بعد لكنه استمرت في ظلم الأبرياء: لقد ظل قانون محمد الفاتح نافذًا حتى أواخر القرن السادس عشر حين وضع تظامًا آخر يقضي بنفي الأمراء وتحديد إقامتهم في مقصورة داخل القصر لها حديقة تحوطها جدران عالية، ولذلك أطلق على كل مقصورة القفص. وكان يُحرم على من في داخلها التواصل مع العالم الخارجي، وكان كل أمير عثماني يقضي حياته في تلك الأقفاص مع بعض المخصيين والجواري والغلمان.

  1. إبراهيم البيومي، ميراث الاستبداد (القاهرة: فيرست بوك، 2018).

 

  1. إياد القطان، الديمقراطية التائهة (جامعة فلادلفيا، 2002).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2021). ‎

 

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: دار الرواق، 2022).