بين حياتَين

ما الأسباب التي دعت لانتشار مصطلح تردَّد على أنه عقدي، وهو زندقة وزنديق، وكل ما يُشتَقُّ من أصلها؟

أصل كلمة زنديق هي الكلمة الفارسية “زنده كَرْد”، التي تعني إبطان الكفر والإلحاد، وعليه فإن البعض يُعرِّف الزندقة بالشخص الذي يعتقد الكفر ويُظهِره كلما سنحت له الفرصة، ولكن إذا اكتشف أمره فإنه لا يمانع أن ينكر إلحاده، وهو بهذا يختلف عن المنافق، وهو شخص يستتر بكفره في باطنه بينه وبين نفسه.

حياة الزندقة وحياة يعتقدون أنها الإيمان

إن الزندقة في بعض معانيها -وهو الشك أو الإلحاد- في العصر العباسي كانت أبْيَن وأظهر، فكان السبب الأول عند البعض من المؤرخين أن العلم الذي كان شائعًا في العصر الأموي كان العلم الديني؛ من جمع للحديث، وتفسير للقرآن الكريم، واستنباط الأحكام الشرعية منهما، وتلك لا تثير في النفوس شكوكًا تبعث على الزندقة، إنما الذي قد يثير الشكوك مذاهب الكلام، والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان، والبحث الفلسفي على النحو الذي يبحثه أرسطو وأفلاطون في المادة والصورة، والجزء الذي لا يتجزَّأ والجوهر والعرض، وما إلى ذلك، وهذه الأشياء كانت قليلة في العصر الأموي، وهي وفيرة جدًّا في العصر العباسي.

وسبب ثانٍ هو أن بعض الفرس رأوا أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لم يُحقِّق مطالبهم، فقد انتقلوا من يدٍ عربية إلى يد أخرى، ومطمح نفوسهم أن تكون الحكومة فارسية في مظهرها وحقيقتها، في سلطتها ولغتها ودينها، ورأوا أن ذلك لا يتحقَّق والإسلام في سلطانه، فأخذوا يعملون لنشر المانوية والزرادشتية والمزدكية ظاهرًا إن أمكن، وخفية إذا لم يمكن، فكان من ذلك فُشُوُّ الزندقة.

لما أتت الدولة العباسية انتعش الموالي، وخاصة الفرس، وأصبح أكثر السلطان في أيديهم، وغلبوا على العرب، وقد كانت لهم ديانات سابقة لم ينسوها جميعًا لما اعتنقوا الإسلام، وكان أن يتحرَّروا سياسيًّا لا دينيًّا، فكانت دعواتهم السرية واجتماعاتهم وتدابيرهم للسياسة لا الدين. والزندقة إنما هي في الدين لا في السياسة، فلما نجحوا واطمأنوا وغَلبوا عادوا للديانات القديمة والجديدة فكانت الزندقة.

يقول المسعودي في الخليفة المهدي: «إنه أمعن في قَتْل الملحدين والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته لِما انتشر من كتب ماني، وابن  ديصان ومرقيون؛ مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره، وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنَّف في ذلك ابن أبي العوجاء وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية وغيرهم، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس، وكان المهدي أولَ من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شُبَه الملحدين فأوضحوا الحق للشاكين».

لقد كان المهدي شديد الاهتمام بتلك الفئة، حتى لم يَنسَ أن ينصح ابنه إذا قُلِّد الأمر أن ينكل بهم، فالطبري يذكر: “أن المهدي قال لموسى –الهادي-  يومًا: يا بُنَيَّ، إن صار لك هذا الأمر -الخلافة-  فتجرد لهذه العصابة -يعني أصحاب ماني- فإنهم فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حَسَن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، ثم تخَرجها إلى تحريم اللحم، ومَسِّ الماء الطَّهُور، وتَرْك قتل الهوام تحَرُّجًا وتحَوُّبًا، ثم تخرجها من هذا إلى عبادة اثنين؛ أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تُبِيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرِّد فيها السيف، وتقرَّب بأمرها إلى الله لا شريك له”.

وقد أنفذ الهادي وصية أبيه، فكان يقتل الزنادقة، ويروي الطبري في حوادث سنة ١٦٩هـ: “أن الهادي اشتد هذه السنة في طلب الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين مِن أهل النهروان، ذُكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس يهرولون في الطواف فقال: ما أُشَبِّهُهم إلا ببقر تدوس في البَيْدَر”.

ولما وُلِّيَ هارون الرشيد سلك سبيل مَن قَبله من الخلفاء في تَعَقُّب الزنادقة، وذكر ذلك الطبري في حوادث سنة ١٧1هـ.

وجاء عهد المأمون فبلغه خبر عشرة من الزنادقة من أهل البصرة، يذهبون إلى قول «ماني»، ويقولون بالنور والظلمة، فأمر بحَمْلهم إليه بعد أن سُمُّوا واحدًا واحدًا، فكان يدعوهم رجلًا، ويسألهم عن دينهم، فيُخبِرونه بالإسلام فيمتحنهم ليُظهِروا ما أبطَنُوه، وذلك بأن يُظهر لهم صورة ماني، ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرَّؤوا منها، ويأمرهم بذبح طائر ماء وهو الدرج، وقد أبوا ذلك، فقتلهم.

تلك السياسة من بني العباس اجتَثَّت منهم الكثير، ولكنهم يُوَرِّثُون نقلها جيلًا بعد جيل.