بمحاربةٍ لتعطيل بغداد عن الركب الحضاري

إيران عملت على التجريف الممنهج في العراق

كانت إستراتيجية “الفرس” الجديدة تقوم على استبدال الولاء للطائفة على حساب الولاء للأوطان، والترويج بين الشعوب والأقليات بأن فكرة الطائفة هي الأساس، وليس القومية والوطنية التي يتبعونها، لذلك جاءت الدعوة إلى ولاية الفقيه كملاذ يمكن أن يجتمع عليه الإيرانيون مع أقليات وشعوب وقوميات أخرى، ليأتي لاحقًا توظيف ولائهم لإيران بطريقة غير مباشرة، وتصوير إيران الملاذ الوحيد للطائفة في العالم.

 اعتبر الخميني والملالي أن العراق هي درة التاج الطائفي الإيراني الذي يحلمون بتأسيسه يومًا ما، فلم تكن الطائفية التي نشروها إلا جسرًا للعبور نحو بناء الدولة القومية الفارسية، مهما اختبؤوا خلف قصص وخرافات وماورائيات، لذلك جاء التركيز على العراق أكثر من غيره؛ كونَه امتدادًا جغرافيًّا للأحواز العربية، وبقاؤه مستقلًّا يعني بالضرورة اختلال الاحتلال الإيراني للأحواز، وكذلك لكونه بوابة شرقية للعالم العربي، والسيطرة عليه تعني السيطرة على جزء مهم من ثروات العالم النفطية والمائية والزراعية، إضافة إلى أنه قاعدة متقدِّمة للسيطرة على بقية الإقليم العربي وصولًا إلى الجزيرة العربية والأماكن المقدسة فيها؛ لتحويلها إلى مزارات، وإدخال الأفكار والمعتقدات الزرادشتية إليها كما فعلت الصفوية يومًا ما.

استخدم الإيرانيون سياسة الهجوم من الخارج، واعتمدوا الجهد العسكري بما يخالف عقيدتهم التي بنوها طوال مئات السنين، بالاعتماد على مقاولين من الخارج لتنفيذ الحروب نيابةً عنهم (مثل حزب الله والحوثيين)؛ لأنهم علموا أنهم غير قادرين على اختراق الجسم العراقي الصلب من الداخل، والذي بُني على عقيدة وطنية قومية، وعمدوا على إنهاكها من الخارج في حرب طويلة دامت أكثر من ثماني سنوات خلال الحرب العراقية الإيرانية، وفي الوقت نفسه تحضير مرتزقة ومخرِّبين وعملاء؛ للدفع بهم إلى الداخل العراقي في أي لحظة سيولة سياسية أو أمنية.

لم يكن بإمكان إيران أبدًا القيام بأي نشاط داخل العراق بعد الثورة الإيرانية، وخاصة في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، لذلك عمدت طهران إلى تعديل خطتها، وبناء شبكات وتنظيمات وتيارات طائفية ومسلحة درَّبَتها على مدى سنوات داخل إيران، لهذا لم يكن اختراقًا ناعمًا كما فعلته في اليمن أو لبنان بداية الأمر، بل كان عملًا مسلحًا منظمًا بقي في الحضانة مدة عشرين عامًا، حتى العام (2003)، وإثر الاحتلال الأمريكي للعراق تم نفث السم الطائفي والميليشياوي في جسد العراق من أجل إنهاكه والقضاء عليه.

ويصف كتاب “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي” -للكاتبين وصفي عقيل، وخالد الدباس- الممارسات الإيرانية لاختراق جوارها العربي، بأنها إستراتيجية اعتمدت على تطويع مجتمع النخبة – والمقصود هنا الطبقات السياسية الحزبية – وكذلك المجتمعات، من خلال زرع الطائفية والولاء للطائفة على حساب الأوطان.

الفرس أنهكوا العراق بنَفْثِ السُّم الطائفي والميليشياوي.

تعمَّدَت إيران ألا تعترف بالعراق كدولة مستقلة، ونحن هنا لا نتحدث عن الدولة الإيرانية الحالية التي يسيطر عليها الملالي، بل عن إيران الشاه، إذن الأطماع الإيرانية في العراق وأراضيه وتاريخه الطويل هي أطماع فارسية في أساسها، مغلفة أحيانًا بالقومية الفارسية التي مثَّلها الشاه، وأحيانًا أخرى بالطائفية الصفوية، التي يمثِّلها الملالي حاليًّا.

يُكمل كتاب الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار شارحًا ذلك: “لم تعترف إيران تاريخيًّا باستقلال العراق، وبقيت العلاقات الرسمية متوترة، يغيب عنها الاعتراف بالحدود السياسية حتى عام 1975، عندما وقَّع البلدان اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود، ثم انهار هذا الاتفاق بعد قيام الحرب بينهما عام 1980، وبعد سقوط نظام حكم صدام حسين 2003 تحسَّنَت العلاقات الإيرانية العراقية في ظل الحكومة الجديدة التي غلب عليها تمثيل موالي لإيران”.

سقوط بغداد.. سقوط العراق:

لم يكن سقوط بغداد إثر الاحتلال الأمريكي (2003) مجرد احتلال لعاصمة عربية، بل كان سقوطًا مدويًا لحضارة الخلافتين الأموية والعباسية، والحضارة العربية التي تجلَّت في أزهى صورها في بغداد الرشيد وغيره من الخلفاء.

لم تكن بغداد مجرد مدينة عابرة في الوجدان العربي، بل كانت أيقونة العواصم، وأكثرها حضورًا في التاريخ والفقه والعلوم الإنسانية، ومن هنا كان الحقد الفارسي على بغداد – الحجر والبشر- طاغيًا، تَمثَّل في عشرات الآلاف من التفجيرات الإرهابية وعمليات القتل على الهوية والترويع التي مارستها الميليشيات التابعة لإيران بعد سقوط بغداد، لقد قُدِّر عدد القتلى والمشرَّدين بأكثر من مليوني إنسان، أما الانهيار الاقتصادي والتعليمي والصحي والتنموي فحدِّث ولا حرج، لقد تراجع العراق في سلم الحضارة بسبب الاحتلال الإيراني له مئات السنين، يقول الباحث معمر فيصل خولي في منشور له: “جاءت الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 كفرصة تاريخية للنظام الإيراني لتحويل علاقتها مع العراق – التي كانت سابقًا واحدة من أشد أعدائها- فقد استغلت إيران الحدود الطويلة التي يَسهُل اختراقها مع العراق وعلاقاتها طويلة المدى مع سياسيِّين عراقيين رئيسِين وأحزاب وجماعات مسلحة عراقية، فضلًا عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات الاقتصادية والدينية والإعلامية لتوسيع نفوذها، وبالتالي ترسيخ مكانتها”.

ويعتبر احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق أكبر هدية إستراتيجية قُدِّمَت للنظام الإيراني للمضي في مشروعه التوسعي الذي بدأ إحكام السيطرة على العراق ليتمدد -فيما بعد- في دول المشرق العربي؛ إذ كان لهذا المشروع دوافعه وأشكاله وأدواته التأثيرية، هناك عدة دوافع أدَّت بإيران إلى الدخول كأحد الأطراف الأساسية في تطورات الساحة العراقية، من أبرزها: تحويل العراق إلى منصة انطلاق إستراتيجي للإقليم؛ إذ إن ثمة مصلحة إستراتيجية إيرانية ترى في العراق منطلقًا مهمًّا للتوغل الإيراني في باقي دول المنطقة، سواء باتجاه سوريا، أو لبنان، والأردن ودول الخليج العربي.

تصاعد التحدي الأمني للحكومة العراقية، ففي ظل عدم قدرة حكومة العراق على مواجهة “تنظيم داعش” – الذي خلَقَتْه ودعمته طهران نفسها-، استغلت إيران حاجة العراق والأوضاع التي يمر بها.

وبطبيعة السياسة الأمريكية تجاه العراق، شجَّعَت إدارة باراك أوباما الدور الإيراني على ممارسة تأثيرات في التوازنات الداخلية العراقية، فبالرغم من عدم مشاركة إيران رسميًّا في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده واشنطن، فإن الإدارة الأمريكية رحَّبَت بالدور الإيراني في العراق، مما يعني منح طهران الضوء الأخضر لتأدية دورها في العراق.

اختراق السلطة.. الطريق إلى قلب العراق:

استفادت إيران كثيرًا من الاحتلال الأمريكي للعراق، وبنائه نظامًا سياسيًّا قائمًا على الأحزاب المنطلقة من بُعْد طائفي وولاء خارجي، لقد كانت إيران جاهزة تمامًا، واستطاعت -من خلال المؤسسات التي بناها الاحتلال الأمريكي، في البرلمان والمحافظات والوزارات- التسلُّلَ إليها عبر نُخَب تَدِين بالولاء لطهران، بل تحوَّلَت إلى منظومة من الموظفين الذين يأتَمِرون بتوجيهات إيرانية يعملون لمصلحة بلاد غير بلادهم.

لقد كان الاختراق عميقًا وقاسيًا؛ إذ بدأت طهران في تصفية كلِّ مَن تعتقد أنه يمثِّل خطرًا على مشروعها الاحتلالي، فالقتل والاغتيال للنخب العراقية المتعلِّمة والمستقلة كان ظاهرة ممتدة على كامل العراق، راح ضحيتها عشرات الآلاف من عسكريين وسياسيين وأطباء ومهندسين وعلماء وأساتذة جامعات وشعراء وكتاب ومثقفين، لقد كان تجريفًا ممنهجًا للعراق، كما نفَّذ وكلاء إيران في العراق سياسة التصدي لأي علاقات أو تصالح عربي عراقي، بهدف عَزْل العراق عن محيطه وفضائه العربي.

وفي المحصلة فإن إيران تسعى من خلال تدمير العراق لهدفين لا ثالث لهما؛ أولًا: الانتقام المتوحِّش للشعور المتراكم داخل الوجدان الإيراني ضد كل ما هو عربي وعراقي على وجه الخصوص، فالعراق الذي كان محتلًّا من الإمبراطورية الساسانية ذات يوم تحوَّل في عهد الأمويين والعباسيين ليكون عاصمة إدارة الشأن الفارسي، ومنه تنطلق الجيوش وإدارة خرسان وبقية الأقاليم الفارسية، ولذلك سيبقى العراق ذا حساسية مفرطة في إيران.

ثانيًا: لا يمكن أن تقبل النخبة الحاكمة في طهران أن يكون البلد الذي تسيطر عليه أفضل من بلدها، خاصة أنها فشلت تمامًا في تحسين أوضاع بلادها أو تطويرها أو النهضة بها، فإيران اليوم تُعَدُّ واحدة من أكثر الدول تخلُّفًا وتدهورًا على كافة الأصعدة، فهل يُعقَل أن تقبل طهران أن تصبح بغداد عاصمة متقدمة متنورة ومضيئة، وهو ما ينسحب تمامًا على بيروت أو صنعاء.

  1. أحمد حقي، طبيعة وأشكال التحالف والتعاون عبر العصور المختلفة بين إيران والغرب (عمَّان: دار عمَّار، 2013).

 

  1. أفشان إستوار، “المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية: حين تتصادم سياسات الهوية مع الإستراتيجية”، دراسة نُشرت على موقع مالكوم كير-كارنيجي بتاريخ 30 تشرين الثاني-نوفبر ( 2016).

 

  1. معمر خولي، “التغلغل الإيراني في العراق.. الدوافع والأشكال وأدوات التأثير”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية، موسوعة حول العراق (2016).

 

  1. وصفي عقيل وخالد الدباس، “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي.. دراسة حالة “العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، مج45، ع4 (2018).