باعتراف المؤرخ التركي "إينالجيك"

"الباطنية" قاسم مُشترك

بين الطُّرُق الصوفية

الحالة الكهنوتية المتعمقة في الأناضول كانت بابًا مفتوحًا على مصراعيه للتأويل في الثقافة العثمانية، مما مكِّن الأفكار الفلسفية – المُتعارضة مع المذهب السني – من الانتشار بأكثر رؤاها شططًا وبعدًا عنه، بتأويلات ذات منطلقات وثنيِّة وحضارات مجوسية ويونانية وهندية ونصرانية وصابئة وأفكار إلحادية، عملت جميعها على استدراج عوام الأتراك إلى حصر التفسيرات الدينية في رجال الدين المتصوفين، باعتبار أن باطن المعاني القرآنية المتواترة ملأى بأسرار لا يراها سوى الأئمة المعصومين، وهم وحدهم القادرون على تفسيرها، وهذا ما جعل التصوُّف في الدولة العثمانية يغرق في الأفكار الباطنية.
وحينما دخل الأتراك في الإسلام أصبح التصوف مظهرًا ملازمًا وموازيًا للتديّن لديهم؛ بالميل إلى تقديس أهل الإيمان حسبما يعتقدون، في الوقت الذي كانت فيه الصوفية في المجتمع العباسي منزوية في ركن العبادة والزهد بعيدةً عن الحراك الاجتماعي، بينما هي في عصر الدولة العثمانية، وفي الأناضول بالذات، صارت لهم مجتمعا ودينا يسيرون عليه، وأصبحت – بالنسبة للعامة – هي مدخلهم إلى الدين ومجال ممارستهم له.

انشغلوا بمقام العرفان والكشف عن الحقائق الغيبية والحصول على الكرامات

ولا شك أن تعدد منافذ التصوف، وعدم اقتصاره على مذهب واحد؛ ساهم بشكلٍ كبير على انتشاره، خاصة في الأناضول؛ سيما أنه باستطاعته التناغم مع أي فكر مهما كانت منطلقاته، باعتباره مذهبًا روحيًا اتخذه العوام بشكله الظاهر سلوكًا للعبادة والانقطاع إلى الله برياضات روحية ترفع صاحبها إلى مقام العرفان والكشف عن الحقائق الغيبية والحصول على الكرامات. وهذا ما هيأ للباطنية بيئة خصبة لنشر معتقداتها بين المتصوِّفة السُّنة.

تعدد "الطرق" وتنوعها وجد بيئة خصبة في الأناضول

وتعدّدت الطُّرُق الصوُّفيِّة في الأناضول وتنوعت في عصر الدولة العثمانية وتداخلت بشكل يصعب على الباحث في الطرق الصوفية الإحاطة بتفاصيل كل طريقة وتفكيك معطيات ومرتكزات كل فرقة، وطفتْ طُرُق صوفيِّة منحرفة كثيرة، لعل أبرزها الطُرق الباطنية التي كانت تمثل الجانب الأخطر في تاريخ الدولة العثمانية؛ لأنها لبست رداء التصوّف السُّني بفكرٍ باطني مُتطرِّف، وكانت على ارتباط بمذاهب باطنيِّة صريحة.
وشكلت الصوفية الباطنية الطريقة الأخطر بينها بسبب الغموض الذي يلفها ويكتنفها، واعتمادها كذلك على نشر دراويشها بين الأتراك، متخذين من الطابع النضالي الطائفي منهجًا لهم يحرصون على تمريره إلى الطبقات الشعبية، ومحاولاتهم تفسير القوى الخارقة لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بالمنطق الصوفي الشيعي، يليه أحفاده المختصون بالنورِ الإلهي بحسب زعمهم، وبذلك يوهمونهم بأنهم هم الأقدر على تفسير المعاني الباطنة للقرآن الكريم، لذا برزت الصوفية الباطنية بوصفها منظومة دينية وقوة مسيطرة في المجتمع الإسلامي تحمل عقائد وأفكارًا وعبادات بعيدة عن الكتاب والسنة، وباعتراف التركي خليل إينالجيك؛ فإن هذه المعتقدات الباطنية كانت مُشتركة إلى حدٍ كبير بين الطُّرُق الصوفية في الدولة العثمانية، منها ما هو متطرِّف، ومنها ما هو أقل تطرفًا وحِدِّةً في هذه المعتقدات. ومن أهم الطرق الباطنية الخطيرة: الحروفية والبكتاشية.

1) خالد القط، “التأويل الباطني وأثره في عقائد المذاهب الباطنية”، مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة الثانية، العدد الرابع ( 1435 ه).

2) خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية، ط 1 (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002)

3) سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، ط 3 (دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، 2005)

4) عبدالقادر الحمد، الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، ط 4 (الرياض: د.ن، 1433هـ)