فتن متتالية تشحن النفوس

لم يكن أهالي مكة المشرفة على وفاق كامل مع الجنود والمسؤولين العثمانيين، بل كانت نفوسهم مشحونة ومتوترة ضدهم، ويعود السبب إلى تحكم العثمانيين في شؤون الحجاز وقضاياها بشكل لم تعهده من قبل، وقد ظهرت حالات التوتر والغضب من العثمانيين في عدة حوادث.

استغل بعض ولاة الدولة في الحجاز سلطاتهم، وسعوا إلى تحقيق مآرب وأهداف شخصية كانت سببًا في إثارة البلبلة والقلق في نفوس الأهالي، وكان الولاة يعتمدون على الصلاحيات الواسعة التي منحتها الدولة لهم، حتى في تلك التي لم تكن من اختصاصهم في المراحل السابقة، فمثلًا في عام 1266هـ/ 1849م حاول حسيب باشا والي الحجاز أن يسيطر على شؤون الإقليم كافة بما فيها الدينية، وقد ذكر المؤرخ زيني دحلان ذلك في مؤرَّخه، وحدث صدام مباشر مع مفتي مكة المشرفة أوقفته عند حدِّه.

ولعل من أبرزها أيضًا ما عُرف في المصادر التاريخية بفتنة حوا، وثورة القبوري في مكة المكرمة ذاتها، ففي عام 1288هـ/ 1871م حدث أن اختلف واحد من عامة الناس ويُدعى حوا مع بعض الجنود العثمانيين في سوق المعلاة القريبة من الحرم المكي لسبب أو لآخر، وأدَّى ذلك إلى اشتباك بالأيدي، ثم تطوَّر إلى نـزاع عام بين أهالي السوق الذين هبوا لنصرة حوا، وبين الجنود العثمانيين، وانتشر حتى شَمِل أطراف مكة المكرمة، نتج منه مقتل بعض الجنود، كما أُقفلت الأسواق واضطربت أحوال البلد، واستمرت الاشتباكات طوال اليوم، إلى أن تدخَّل أمير مكة المكرمة الشريف عبد الله بن محمد بن عبد المعين لتهدئة الأوضاع وطمأنة الأهالي، فقبض على بعض مثيري الفتنة، وسعى إلى إعادة استقرار أحوال مكة المكرمة الأمنية، سواء في الأسواق أو في أطرافها.

ويذكر دحلان أن الشريف عبد الله عقد مجالس قضاء للمعتقلين بحضور والي الحجاز العثماني خورشيد باشا، وقاضي مكة المكرمة ومفتيها، وكثير من علمائها، فحكموا على بعضهم بالنفي خارج مكة المكرمة، وسجنوا آخرين، فاطمأن الناس، وزالت الفتنة، ولم تكن تلك الإجراءات الأمنية فيها عدل، وكانت النفوس تزداد توترًا.

أما ثورة القبوري فسببها كما نقلها السباعي أن بعضًا من أهالي مكة المكرمة ثاروا ضد قرار الحكومة المركزية في إستانبول لواليها في الحجاز في عام 1326هـ / 1908م الخاص باستيفاء ضريبة خاصة على دفن الموتى بخمسة ريالات؛ للصرف منها على إصلاح القبور وترميمها، فاستدعى شيخ القبوريين المسؤول عن شؤون الموتى ودفنهم، وأبلغه بقرار إستانبول، وفرض الضريبة لاستيفائها من كل من يريد دفن ميت في مقابر المعلاة، فلم يَقبَل شيخ القبوريين بذلك. وبما أنه لا يستطيع بمفرده مواجهة الحكومة فقد نادى في أهالي مكة المكرمة، وحرَّضهم ضد القرار، ولما كانت النفوس – كما ذكرنا – مليئة ومتوترة ضد العثمانيين فقد تنادى العامة بالجهاد، فاستجابت لهم أحياء مكة المكرمة وحاراتها، وحملوا أسلحتهم ضد الجنود العثمانيين، داعين بالثورة على سلطتهم ورفضها، واشتبك الفريقان في شوارع مكة المكرمة وأسواقها، مما أدَّى إلى قتل أعداد كبيرة وجرح آخرين من الطرفين، ولم تهدأ الاشتباكات إلَّا بتدخُّل عدد من الأشراف وكبار الأعيان، وكانت هذه الحادثة سببًا في عزل أمير مكة المكرمة الشريف عبد الله؛ لأنه لم يكن يميل إلى إعلان الدستور العثماني في مكة المكرمة ويُسلِّم بأحكامه، وأنه كان الداعي إلى الثورة وساعَد الثائرين، فصدر أمر بعزله في 28 رمضان 1326هـ/ سبتمبر 1908م، تلك الأحداث وغيرها تدل على أن سياسة الدولة العثمانية في منطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز طوال تلك الفترة كانت سببًا مباشرًا لعدم الاستقرار وكثرة الاضطرابات، وبخاصة أن أهالي المنطقة رأوا في الوجود العثماني بالطريقة التي كان يسعى فيها العثمانيون إلى تدعيم سلطاتهم فرضًا وتحكُّمًا في شؤون حياتهم كافة، بطريقة لم تكن فيها احترام لانتمائهم وهويتهم، وتحوَّلت الدولة العثمانية من دولة راعية لمناطق متعددة في العالم الإسلامي إلى قوات احتلال وسلطة مركزية متسلِّطة.

ولمؤرِّخي الحقبات التاريخية المعاصرة تلك الآراء واستخلاص الأحوال المجتمعية المتأثرة، وتبيان للنفسيات التي أُوضحت من خلال كتاباتهم.

صدق من قال:

موت وخراب ديار…