شجاعة المغاربة في وجه غدر سليمان القانوني

بمجرد أن وطئت أقدام المغول العثمانيين أرض الجزائر، تمددوا شرقًا باتجاه تونس، ثم غربًا باتجاه تلمسان التي احتلوها ونكّلوا بأهلها، ما اضطر أميرها إلى الفرار إلى فاس، مستجيرًا بالسلطنة السعدية، وكانت السلطنة السعدية تمتد من جنوب الصحراء إلى المحيط الأطلسي غربًا بشاطئ واسع جدًا، وكان وصول العثمانيين إلى تلك المياه إحدى أطماعهم وأمانيهم الكبرى، التي تقف السلطنة السعدية حائلًا دونها.

وكان يعني الوصول للمحيط الأطلسي منعطفًا هائلًا في مسيرة العثمانيين، إذ أصبحوا قادرين -لأول مرة- على الإطلالة على محيطين في وقت واحد، المحيط الهندي والأطلسي، الأمر الذي سيعطيهم نفوذًا وطرقًا عديدة لأسطولهم البحري، وسيدفع القوى الغربية المنافسة لهم مثل، إسبانيا وفرنسا وروسيا في تلك الفترة، إلى التعامل بكثير من الحذر مع الأتراك.

لكن بسبب سياسة العثمانيين العنصرية، وسوء إدارتهم، جعلوا من الحاضن الشعبي العربي، كارهًا لهم ولوجودهم، بسبب مجازرهم وجرائمهم في حق السكان المحليين، ويصف أستاذ التاريخ الليبي أحمد البرعصي، القرون التي سيطرت فيها الدولة العثمانية على شمال أفريقيا بالعصور السادية، ويقول: “كان العثمانيون أساتذة في التعذيب، لم يكتفوا بالخوازيق بل ابتدعوا طرقًا أخرى مثل قطع الآذان، كانت سياستهم إفقار وإذلال سكان البلدان التي احتلوها، وإشعال الفتن القبلية بينهم لأتفه الأسباب من باب سياسة “فرق تسد”.

أما بالنسبة للسلطنتين السعدية والعثمانية، لم يكن بينهما علاقة من قبل، بل إن أخبار  الأندلسيين الذين تركهم العثمانيون لمصيرهم المحتوم بسبب تفضيل إسطنبول لعلاقاتها بالعواصم المسيحية، قد وصلت إلى السلطنة السعدية، وانتشرت بين السكان، الذين تخوّفوا كثيرًا من وصول الأتراك إلى حدود بلادهم، كما أن المجازر التي ارتُكبت في تونس والجزائر، أفزعت السكان، وكشفت عن الوجه الحقيقي لسلطنة دموية تدّعي الخلافة وتزعم حمايتها للإسلام والمسلمين.

تلك العلاقة المتوترة، وعدم الثقة ورفض الانصياع للهيمنة العثمانية، دفعت الآستانة للتدخل بحياكة المؤامرات، أو من خلال تغذية الاضطرابات الداخلية والتدخل في مناسبات عدة، أو دعم المطالبين بعرش المغرب لخلخلة النظام، ولم يكتفوا بذلك، بل دفعوا للقيام بانقلاب ضد السلطان السعدي أبي عبد الله الشيخ أو اغتياله؛ كونه أكثر السلاطين رفضًا لتدخلهم، ولقيادته معركة رفض نفوذ العثمانيين على بلاده.

كل ذلك، دفع العثمانيين لشن العديد من الحملات والغارات العسكرية في عمق أراضي السلطنة السعدية، ولقد تصدى المغاربة بذكاء لكل المحاولات العثمانية، واستطاعوا إدارة أزمتهم مع السلطنة العثمانية بكثير من التضحيات، وبكثير من السياسة والدبلوماسية بسبب علاقاتهم مع العواصم ذات النفوذ في ذلك الوقت، إضافة إلى إخماد الفتن والمؤامرات التي لم تتوقف.

ولعلي أذكر هنا، حادثة تاريخية مهمة في تاريخ العلاقة بين المغرب العربي الأصيل، وبين الغرور العثماني، حينما أرسل السلطان سليمان القانوني، وفدًا للسلطان أبي عبد الله الشيخ السعدي، يطلب منه مبايعته أميرًا للمؤمنين والدعاء له على المنابر وتسميته خليفة للمسلمين، وأن يُصبح السلطان السعدي تابعا له، وسلطنته ولاية من الولايات العثمانية.

فهم السلطان محمد الشيخ، مقصد سليمان القانوني، فدرس عروج باشا وأخيه، وجرائمهما وقتلهما سلاطين الجزائر والشعب الجزائري ما زال يتردد، وعادة العثمانيين يتسللون ويدّعون الأخوة ثم يقومون بالاحتلال والقتل والترويع، ولذلك جاء رده حاسمًا شجاعًا قويًّا، ولم يكن سليمان القانوني يتوقعه، وكان نص الرد على النحو التالي: “سلم على أمير القوارب سلطانك، وقل له: إن سلطان المغرب لابد أن ينازعك على محمل مصر ويكون قتاله معك عليه إن شاء الله ويأتيك إلى مصر والسلام”.

لم يقوَ الغرور العثماني، على تحمّل تلك الإهانة، فقد وصف السعدي، سليمان القانوني بأنه ليس إلا قرصانًا يتسلل على القوارب لاحتلال البلدان ومنازعة أهلها سلطتهم، حينها قرر القانوني اغتيال أبي عبد الله الشيخ، الذي كان من الصعوبة هزيمته عسكريًّا، فتسلل مجموعة من الجند الأتراك بدعوى فرارهم من الجيش العثماني، وانضموا إلى الجيش السلطاني السعدي، ثم انتهزوا فرصة خروج السلطان في رحلة صيد برفقة عدد قليل من حراسه، واستفردوا به وقطعوا رأسه غيلة وغدرًا، ونقلوا رأسه إلى إسطنبول حيث عُلق على أبوابها، وليحتفل سليمان القانوني بانتصاره المزعوم القائم على الغدر والخديعة.

لم يكن اغتيال السلطان الشيخ، نهاية العلاقة المتوترة بين العثمانيين والسعديين، ولم تتوقف أطماع العثمانيين، بل أعطتهم فرصة للتدخل مرة أخرى، من خلال خلخلة نظام الحُكم، ودعم الانقلابات الداخلية، حينما دعموا مطالبات أخرى بالعرش السعدي، هذه الطريقة العثمانية في الحكم والسيطرة تكررت في كثير من الولايات العثمانية، إذ بدعم المطالبين بالحكم، يهددون مكانة الوالي الذي يخضع للسلطنة ويتقرب لها؛ خوفًا من دعم العثماني لمنافسيه، ولذلك يبذل كلا الطرفين ما يستطيع من تذلل وخضوع للحصول على مباركة السلطان على الولاية، فضلًا عن حُكم موازي يأتي عبر الحاميات التركية المتقدمة التي تخضع للإنكشاريين، الذين يتحولون إلى أساطين للمال والنفوذ بينما الحاكم المحلي مجرد عبد من عبيد السلطان.